المَطلبُ الأوَّلُ: الشَّرطُ أملَكُ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الشَّرطُ أملَكُ"
[510] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/31)، ((المغني)) لابن قدامة (14/120)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (10/41)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/11)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 584)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/73). ، وبصيغةِ: "الوفاءُ بالشَّرطِ واجِبٌ"
[511] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (6/2072)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 138). ، وبصيغةِ: "يَلزَمُ مُراعاةُ الشَّرطِ بقَدرِ الإمكانِ"
[512] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 26)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 143). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.مَعنى (أملَكُ): أي: ألزَمُ وأحَقُّ. والشَّرطُ أملَكُ: أي: أشَدُّ مِلكًا وأدخَلُ في الاتِّباعِ، فهو (أفعَلُ) تَفضيلٍ مِنَ المَبنيِّ للفاعِلِ أوِ المَفعولِ: أي: أشَدُّ مالكيَّةً أو مَملوكيَّةً بالنَّظَرِ لمَنِ اشتَرَطَه أو لمَنِ اشتُرِطَ عليه، والتَّعبيرُ بالتَّفضيلِ لبَيانِ أنَّ ملكَه وتَصَرُّفَه أقوى، فلا يَنبَغي أن يُخالَفَ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما اشتُرِطَ فهو لازِمٌ وأَولى أن يُتَّبَعُ، سَواءٌ كان ذلك الشَّرطُ عليك أم كان لك، ومُراعاةُ الشَّرطِ إنَّما تَكونُ بقدرِ الاستِطاعةِ، وما زادَ عنِ الطَّاقةِ فلا يَجِبُ مُراعاتُه ولا اعتِبارُه؛ لأنَّ الأصلَ في الشُّروطِ اعتِبارُها ما أمكَنَ ذلك.
والمُرادُ بهذه القاعِدةِ الشَّرطُ التَّقييديُّ، وهو الذي يَلزَمُ مُراعاتُه لا الشَّرطُ التَّعليقيُّ.
والفرقُ بَينَ المُعَلَّقِ بالشَّرطِ وبَينَ المُقَيَّدِ بالشَّرطِ، وهو مَقصودُ هذه القاعِدةِ: أنَّ العَقدَ المُعَلَّقَ بالشَّرطِ: هو ما فيه شَرطٌ تَعليقيٌّ، فلا يَكونُ الحُكمُ مُنجَزًا فيه، بَل هو مُتَأخِّرٌ إلى زَمانِ وُقوعِ الشَّرطِ؛ لترَتُّبِه عليه تَرَتُّبَ الجَزاءِ على الشَّرطِ.
وأمَّا المُقَيَّدُ بالشَّرطِ، وهو ما فيه شَرطٌ تَقييديٌّ، فيَكونُ الحُكمُ فيه مُنجَزًا واقِعًا في الحالِ، كَمَن أجَّرَ بَيتًا واشتَرَطَ أن تَكونَ الأُجرةُ مُقدَّمةً، صَحَّ العَقدُ وثَبَتَ، وعلى المُستَأجِرِ الوفاءُ بالشَّرطِ.
والشَّرطُ المُعتَبَرُ الذي يَلزَمُ مُراعاتُه مِنَ الشُّروطِ إنَّما هو الشَّرطُ الذي يوافِقُ الشَّرعَ، لا أيُّ شَرطٍ كان
[513] يُنظر: ((شرح مقامات الحريري)) للشريشي (1/107)، ((زهر الأكم)) لليوسي (3/230)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/73)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/84)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 407). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قَولُ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الوفاءَ بالعَقدِ يَتَضَمَّنُ الوفاءَ بأصلِه ووَصفِه، والشُّروطُ مِن أوصافِ العُقودِ. ومِثلُه قَولُ اللهِ تعالى:
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] ، والذي اشتَرَطَ على نَفسِه شَرطًا قد تَعهَّد به، فيَكونُ داخِلًا في ذلك
[514] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (4/133). وينظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/372)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (14/253). .
- وقال اللهُ تعالى في قِصَّةِ موسى مَعَ الخَضِرِ:
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 76-78] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ المُشارُ إليه مُقدَّرٌ في الذِّهنِ حاصِلٌ مِنِ اشتِراطِ موسى على نَفسِه أنَّه إن سَأله عن شَيءٍ بَعدَ سُؤالِه الثَّاني فقدِ انقَطَعَتِ الصُّحبةُ بَينَهما، أي: هذا الذي حَصَل الآنَ هو فِراقُ بَينِنا، كَما يُقالُ: الشَّرطُ أملَكُ عليك أم لك
[515] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (16/10). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((المُسلِمونَ عِندَ شُروطِهم)) [516] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزم قَبلَ حَديث (2274) واللَّفظُ له دونَ ذِكرِ راويه، وأخرجه مَوصولًا أبو داود (3594) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. حَسَّنه المناوي في ((كَشف المَناهجِ)) (2/520)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (2890)، وقال النووي في ((المجموع)) (9/376): إسنادُه حَسَنٌ أو صحيحٌ، وحَسَّن إسنادَه ابنُ كَثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/54)، وابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/69)، وذَكَرَ ثُبوتَه ابنُ العَرَبيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (3/322)، وذَهَب إلى تَصحيحِه ابنُ القَيِّمِ في ((الفروسية)) (164)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6714). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ المُسلمينَ إذا اشتَرَطوا شُروطًا فإنَّها تَكونُ لازِمةً، فيَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ الشَّرطَ يَجِبُ الوفاءُ به، وهو مَعنى القاعِدةِ
[517] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 278)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (4/133). .
قال الجَصَّاصُ: (أوجَبَ ذلك أنَّ كُلَّ مَن شَرَطَ على نَفسِه شَرطًا أُلزِمَ حُكمَه عِندَ وُجودِ شَرطِهـ)
[518] ((أحكام القرآن)) (3/475). .
- وعن عُقبةَ بنِ عامِرٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أحَقُّ ما أوفيتُم مِنَ الشُّروطِ أن توفُوا به: ما استَحلَلتُم به الفُروجَ )) [519] أخرجه البخاري (5151) واللفظ له، ومسلم (1418). .
والحَديثُ ظاهِرُ الدَّلالةِ على تَأكيدِ حُرمةِ النِّكاحِ، والحَثِّ على الوفاءِ بشَرطِه، وقد أكَّدَ اللهُ تعالى أمرَ النِّكاحِ، فقال:
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء: 21] ، وإنَّما كان كذلك لأنَّه أعظَمُ ما يُستَحَلُّ فالوفاءُ بشَرطِه آكَدُ مِن غَيرِه
[520] يُنظر: ((التحرير)) للأصبهاني (ص: 269)، ((التنوير)) للصنعاني (3/567). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا اشتَرَطَ المُشتَري على نَفسِه أن يَدفعَ الثَّمَنَ حالًّا، فعليه الالتِزامُ بذلك. وأمَّا إذا كان الشَّرطُ تَأجيلَه لمُدَّةٍ مَعلومةٍ فيَجِبُ على المُشتَري الوفاءُ بالشَّرطِ، وأداءُ الثَّمَنِ عِندَ حُلولِ الأجَلِ، كَما يَجِبُ على البائِعِ عَدَمُ مُطالبةِ المُشتَري بالثَّمَنِ إلَّا عِندَ حُلولِ الأجَلِ
[521] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (9/9). .
2- إذا باعَ شَخصٌ بشَرطِ أن يَحبِسَ المَبيعَ إلى أن يَقبِضَ الثَّمَنَ، فهذا شَرطٌ يوافِقُ مُقتَضى العَقدِ، فيَصِحُّ ويَلزَمُ مُراعاتُه والوفاءُ به
[522] يُنظر: ((الوجيز)) للبورنو (ص: 408)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/537). .