موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: تَعليقُ الأملاكِ بالأخطارِ باطِلٌ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "تَعليقُ الأملاكِ بالأخطارِ باطِلٌ" [457] يُنظر: ((أصول الكرخي)) مطبوع مع ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 249)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 17). ، وبصيغةِ: "الأصلُ أنَّ تَعليقَ الأملاكِ بالأخطارِ باطِلٌ، وتَعليقُ زَوالِها بالأخطارِ جائِزٌ" [458] يُنظر: ((أصول الكرخي)) مطبوع مع ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 249)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 17). ، وبصيغةِ: "تَعليقُ التَّمليكِ بالخَطَرِ لا يَجوزُ" [459] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/287)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/286). ، وبصيغةِ: "تَعليقُ المالِ بالأخطارِ لا يَجوزُ" [460] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/431). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
التَّعليقُ: رَبطُ حُصولِ مَضمونِ شَيءٍ بحُصولِ مَضمونِ شَيءٍ آخَرَ.
والمُرادُ مِنَ الخَطَرِ: الأمرُ الذي ترَدَّد بَينَ الوُجودِ والعَدَمِ، فيُمكِنُ أن يَقَعَ ويُمكِنُ أن لا يَقَعَ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ تَعليقَ التَّمليكاتِ بالخَطَرِ باطِلٌ لا يَصِحُّ، ومِن ذلك عُقودُ البَيعِ والشِّراءِ والإجارةِ والاستِئجارِ والهِبةِ والصَّدَقةِ والنِّكاحِ والإقرارِ والإبراءِ وعَزلِ الوكيلِ. فإذا قال رَجُلٌ لآخَرَ: إذا دَخَلتَ هذه الدَّارَ فقد بِعتُكها بمَبلغِ كَذا. فقال: قَبِلتُ، لم يَصِحَّ العَقدُ، ولم يَقَعِ المِلكُ عِندَ حُصولِ الشَّرطِ؛ لأنَّه تَعليقٌ للتَّمليكِ بأمرٍ له خَطَرُ الوُجودِ والعَدَمِ، والتَّمليكاتُ لا تَحتَمِلُ التَّعليقَ بالخَطَرِ.
وأمَّا تَعليقُ زَوالِ الأملاكِ بالأخطارِ فجائِزٌ، وذلك كالطَّلاقِ، فإذا قال الرَّجُلُ لامرَأتِه: إذا دَخَلتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. صَحَّ، وعِندَ وُجودِ الشَّرطِ يَقَعُ الطَّلاقُ، ويَزولُ مِلكُ النِّكاحِ [461] يُنظر: ((أصول الكرخي)) مطبوع مع ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 250)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/117)، ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (2/652)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 317). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (كُلُّ شَرطٍ يُخالفُ مَقصودَ العَقدِ فهو باطِلٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ تَعليقَ الأملاكِ بالخَطَرِ مِن بابِ القِمارِ، وهو يُخالفُ مَقصودَ العَقدِ؛ لأنَّ الأصلَ في التَّمليكاتِ أنَّها لا تَحتَمِلُ التَّعليقَ بالخَطَرِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
فعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن لُبسَتَينِ وعن بَيعَتَينِ: نَهى عنِ المُلامَسةِ والمُنابَذةِ في البَيعِ)) [462] أخرجه البخاري (5820) واللفظ له، ومسلم (1512). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن هذه المُعامَلاتِ؛ لأنَّ في كُلِّ واحِدٍ مِنها تَعليقَ التَّمليكِ بالخَطَرِ، وفيها مَعنى القِمارِ. والمُلامَسةُ: أن يَلمِسَ كُلٌّ مِنهما ثَوبَ صاحِبِه بغَيرِ تَأمُّلٍ، فيَلزَمُ اللَّامِسَ البَيعُ مِن غَيرِ خيارٍ له عِندَ الرُّؤيةِ، وهذا بأن يَكونَ مَثَلًا في ظُلمةٍ أو يَكونَ مَطويًّا، وهما مُتَّفِقانِ على أنَّه إذا لمَسَه فقد باعَه، وفسادُه لتَعليقِ التَّمليكِ على أنَّه مَتى لمَسَه وجَبَ البَيعُ وسَقَطَ خيارُ المَجلِسِ. والمُنابَذةُ: أن يَنبِذَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما ثَوبَه إلى الآخَرِ، ولم يَنظُرْ كُلُّ واحِدٍ مِنهما إلى ثَوبِ صاحِبِه، فيَجعَلانِ النَّبذَ بَيعًا، وهذه كانت بُيوعًا يتعارَفونها في الجاهليَّةِ، فقد كان في الجاهليَّةِ يَتَساومُ الرَّجُلانِ السِّلعةَ، فإذا لمَسَها المُشتَري، أو نَبَذَها إليه البائِعُ، أو وَضَع المُشتَري عليها حَصاةً، لزِمَ البَيعُ [463] يُنظر: ((فتح باب العناية)) للقاري (2/336)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/417)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/65). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا قال الرَّاهنُ للمُرتَهنِ: إن جِئتُك بمالِك إلى وقتِ كَذا وإلَّا فالرَّهنُ لك بمالِك. فهذا لا يَجوزُ؛ لِما فيه مِن تَعليقِ سَبَبِ المِلكِ بالخَطَرِ، وأسبابُ مِلكِ الأعيانِ لا تحتَمِلُ التَّعليقَ بالخَطَرِ، فإذا تَبَيَّنَ بُطلانُ هذا الشَّرطِ كان ذِكرُه والسُّكوتُ عنه سَواءً [464] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1779). .
2- إذا قال رَجُلٌ لرَجُلينِ: داري هذه لأطولِكُما حَياةً، أو حَبيسةٌ على أطولِكُما حَياةً، فهذا باطِلٌ؛ لأنَّه لا يُرادُ بهذا اللَّفظِ طولُ الحَياةِ فيما مَضى، فهو تَعليقُ التَّمليكِ بالخَطَرِ، وهو مَعنى الرُّقبى عِندَ الحَنَفيَّةِ، مِن حَيثُ إنَّه يَأمُرُ كُلَّ واحِدٍ مِنهما أن يُراقِبَ مَوتَ صاحِبِه؛ لتَكونَ الدَّارُ له، وذلك باطِلٌ؛ لأنَّه تَعليقٌ للتَّمليكِ بأمرٍ له خَطَرُ الوُجودِ والعَدَمِ، والتَّمليكاتُ مِمَّا لا تَحتَمِلُ التَّعليقَ بالخَطَرِ؛ فلم تَصِحَّ [465] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/89)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/117). .
3- المُسابَقةُ إن كانت بغَيرِ شَرطٍ وعِوَضٍ فهو جائِزٌ، وإن كانت بعِوَضٍ وشَرطٍ، فإن كان مِنَ الجانِبَينِ بأن يَقولَ الرَّجُلُ لآخَرَ: إن سَبَقَ فرَسُك أو إبِلُك أو سَهمُك، أعطَيتُك كَذا، وإن سَبقَ فرَسي وغَيرُ ذلك أخَذتُ مِنك كَذا، أو يَضَعُ كُلٌّ مِنهما مالًا بشَرطِ أنَّ السَّابقَ أيَّهما كان يَأخُذُهما- فهو غَيرُ جائِزٍ؛ لأنَّه مِن صُوَرِ القِمارِ والمَيسِرِ المَنهيِّ عنه، وفيه تَعليقُ التَّمليكِ بالخَطَرِ [466] يُنظر: ((التعليق الممجد)) للكنوي (3/358). ويُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 85). .

انظر أيضا: