موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: التَّساوي في سَبَبِ الاستِحقاقِ يوجِبُ التَّساويَ في نَفسِ الاستِحقاقِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّساوي في سَبَبِ الاستِحقاقِ يوجِبُ التَّساويَ في نَفسِ الاستِحقاقِ" [308] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/526)، ((تبيين الحقائق)) لابن يونس (4/ 324). ، ويُعَبَّرُ عنها بـ"المُساواةُ في سَبَبِ الاستِحقاقِ توجِبُ المُساواةَ في الاستِحقاقِ" [309] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/170). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تَساوي أشخاصٍ في سَبَبِ وُجوبِ حَقٍّ مِنَ الحُقوقِ يَقتَضي أن يَتَساوَوا في الاستِحقاقِ؛ لأنَّ المُساواةَ تَمنَعُ التَّفاضُلَ والزِّيادةَ بشَرطِ عَدَمِ وُجودِ مُرَجِّحٍ لأحَدِ المُستَحِقِّينَ على الآخَرِ، فإن وُجِدَ مُرَجِّحٌ لأحَدِهما على الآخَرِ فالرَّاجِحُ يُقدَّمُ على غَيرِه، كَما إذا تَزاحَمَ الدَّائِنُ الذي يَستَغرِقُ دَينُه تَرِكةَ المُتَوفَّى والموصى له والورَثةَ، فإنَّ الدَّائِنَ يُقدَّمُ على الموصى له والورَثةِ في الاستِحقاقِ، وتُعتَبرُ هذه القاعِدةُ مُكملةً لقاعِدةِ (يَبقى الاستِحقاقُ ببَقاءِ السَّبَبِ) [310] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/122)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/196)، ((معلمة زايد)) (13/679). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، ومِن ذلك:
عن أُمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لرَجُلينِ اختَصَما إليه في مَواريثَ لم يَكُنْ لهما بَيِّنةٌ إلَّا دَعَواهما، فقال: ((إنَّكُم تَختَصِمونَ إليَّ، وإنَّما أنا بَشَرٌ، ولعَلَّ بَعضَكُم ألحَنُ بحُجَّتِه -أو قد قال: لحُجَّتِه- مِن بَعضٍ، فإنَّما أقضي بَينَكُم على نَحوِ ما أسمَعُ، فمَن قَضَيتُ له مِن حَقِّ أخيه شَيئًا فلا يَأخُذْه؛ فإنَّما أقطَعُ له قِطعةً مِنَ النَّارِ يَأتي بها إسطامًا في عُنُقِه يَومَ القيامةِ. فبَكى الرَّجُلانِ، وقال كُلُّ واحِدٍ مِنهما: حَقِّي لأخي، قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَا إذ قُلتُما فاذهَبا فاقتَسِما، ثُمَّ تَوخَّيا الحَقَّ، ثُمَّ استَهِما، ثُمَّ ليُحلِلْ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما صاحِبَه )) [311] أخرجه أبو داود (3584)، وأحمد (26717) واللَّفظُ له. حَسَّن إسنادَه الألبانيُّ في ((التعليقات الرضية)) (3/178)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3584)، وقال ابنُ كَثيرٍ في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/406): إسنادُه على شَرطِ مُسلمٍ، وقال ابنُ المُلقِّنِ في ((تحفة المحتاج)) (2/576): إسنادُه على شَرطِ الصَّحيحِ. وذَهَبَ إلى تَصحيحِه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (7229) وقال: على شَرطِ مُسلمٍ. وقَوله: ((إنَّكُم تَختَصِمونَ إليَّ، وإنَّما أنا بَشَرٌ، ولعَلَّ بَعضَكُم ألحَنُ بحُجَّتِه -أو قد قال: لحُجَّتِه- مِن بَعضٍ، فإنَّما أقضي بَينَكُم على نَحوِ ما أسمَعُ، فمَن قَضَيتُ له مِن حَقِّ أخيه شَيئًا فلا يَأخُذْه؛ فإنَّما أقطَعُ له قِطعةً مِنَ النَّارِ)). أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
ووَجهُ الدَّلالةِ واضِحٌ مِنَ الحَديثِ؛ إذ سَوَّى بَينَهما رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ في القِسمةِ لمَّا تَساووا في الدَّعوى والبَيِّنةِ، سَواءٌ بإثباتِ الحَقِّ أو بعَدَمِ إثباتِه [312] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/327،326)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (8/2616)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (8/346). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- مَن أوصى لرَجُلٍ بثُلُثِ مالِه، ثُمَّ أوصى لآخَرَ أيضًا بذلك، فالورَثةُ بالخيارِ إمَّا أن يُجيزوهما أو لا، فإن أجازوا فلهما الثُّلثانِ، ولهمُ الثُّلثُ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وإن لم يُجيزوا فالثُّلثُ بَينَهما نِصفانِ؛ إذ لا يُزادُ على الثُّلثِ حينَئِذٍ، وليسَ أحَدُهما أَولى به مِنَ الآخَرِ، فتَساويا في سَبَبِ الاستِحقاقِ، والتَّساوي فيه يوجِبُ التَّساويَ في الاستِحقاقِ [313] يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبدالوهاب (2/1009)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/212)، ((الإرشاد إلى سبيل الرشاد)) للشريف (ص: 422)، ((تقويم النظر)) لابن الدهان (3/242)، ((الكافي)) لابن قدامة (2/279)، ((العناية)) للبابرتي (10/440). .
2- إذا ماتَ رَجُلٌ وتَرَكَ زَوجَتَينِ فإنَّهما يَتَساويانِ في الاستِحقاقِ، فيَكونُ الرُّبعُ بَينَهما إن لم يَكُنْ له وَلَدٌ، والثُّمُنُ إن كان له وَلَدٌ، ولا عِبرةَ بالقديمةِ أوِ الجَديدةِ ولا بذاتِ الوَلَدِ ولا غَيرِ ذلك مِن أوصافٍ؛ لأنَّ المُساواةَ في السَّبَبِ -وهو الزَّوجيَّةُ- توجِبُ المُساواةَ في الاستِحقاقِ [314] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (4/84)، ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد (3/145)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/97)، ((المبسوط)) للسرخسي (29/172)، ((المغني)) لابن قدامة (6/277)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/122). .

انظر أيضا: