الموسوعة الحديثية


- اختصَم إلى رسولِ اللهِ عليه السَّلامُ رجُلانِ في أرضٍ، قد هلَك أهلُها، وذهَب مَن يعلَمُها، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّما أنا بَشَرٌ، ولمْ يَنزِلْ علَيَّ فيه شيءٌ، ولعلَّ بعضَكم أنْ يكونَ ألحَنَ بحُجَّتِهِ من بعضٍ، فمَن أقطَعُ لهُ قِطعةً من مالِ أخيهِ ظُلمًا، جاء يومَ القِيامةِ إسْطَامٌ مِن نارٍ في وجهِهِ، فبكَى الرَّجُلانِ، وقال كلُّ واحدٍ منهما: يا رسولَ اللهِ، حقِّي له، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَوَخَّيا، ثمَّ اسْتَهِما، ثمَّ لِيُحْلِلْ كلُّ واحدٍ منكما صاحبَهُ.
الراوي : أم سلمة أم المؤمنين | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج مشكل الآثار | الصفحة أو الرقم : 755 | خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الصحيح، غير أسامة بن زيد وهو الليثي فقد روى لهُ مسلم في الشواهد، وهو حسن الحديث
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ مُعلِّمًا ومُربِّيًا، وقد عَلَّمَنا كَيْفيَّةَ القَضاءِ في الخُصوماتِ، وكَيْفيَّةَ إثْباتِ الحُقوقِ بالحُجَجِ والبَراهينِ، وأَعْلَمَنا أنَّ القاضيَ بَشَرٌ يَأخُذُ بما يُقَدَّمُ له الأدِلَّةُ عليه، فيَنْبَغي على المُتَخَاصِمينَ التَّحلِّي بِرُوحِ الإيمانِ والوَرَعِ حتى لا يَأْخُذَ أَحَدٌ حقَّ أَخيه بِالحُجَجِ الباطِلَةِ. وفي هذا الحديثِ تَقولُ أمُّ سَلَمةَ زَوْجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ: "اخْتَصَمَ إلى رَسولِ اللهِ عليه السَّلامُ رَجُلانِ في أَرْضٍ" فجاءَ الاثْنانِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ لِيَحكُمَ بيْنَهما في أَحَقِّيَّةِ أيٍّ منْهما في قِطْعةِ أرْضٍ، "قد هَلَكَ أهلُها"، وماتَ أصْحابُها الأصْلِيِّونَ، "وذَهَبَ مَن يَعْلَمُها"، أي: ماتَ مَن يَعْلَمُ حَقيقَةَ أمْرِها ولِمَن تَؤولُ بعْدَ موْتِ مُلَّاكِها، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ: "إنَّما أنَا بَشَرٌ"، والبَشَرُ: الخَلْقُ، يُطلَقُ على الجَماعةِ والواحِدِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منْهم، وإنْ زادَ عليْهم بالمَنزِلةِ الرَّفيعةِ والرِّسالةِ والوحيِ مِن اللهِ تعالَى، ولا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا إذا أُوحِيَ إليه به مِن اللهِ تعالَى، وفي هذه الحادثةِ قالَ: "ولم يَنزِلْ علَيَّ فيه شِيءٌ" فلم يأْتِ الوَحْيُ بِحُكْمٍ في هذه المَسألةِ، فسأَحْكُمُ لكم بما تُظْهِرونَه مِن الحُجَجِ، "ولَعلَّ بعْضَكم أنْ يكونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِه مِن بعَضٍ"؛ فإنَّ بعْضَ الخُصومِ يكونُ أَقْدَرَ على الحُجَّةِ، وأَبْلَغَ، وأَفْصَحَ، وأَعْلَمَ في تَقْريرِ مقْصودِه، وأَفْطَنَ بِبَيانِ دَليلِه، وأَقْدَرَ على البَرْهَنةِ على دَفْعِ دَعْوى خَصْمِه، بحيثُ يُظَنُّ أنَّ الحقَّ معَه -وهو كاذِبٌ-؛ ولذلك حَذَّرهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ بقَوْلِه: "فَمَن أَقْطَعُ له قِطْعةً مِن مالِ أَخيه ظُلْمًا"، أي: بهذه الحُكومةِ التي قَضَيتُها بِناءً على حُجَجِكم، "جاءَ يومَ القِيامةِ إسْطامٌ مِن نارٍ في وجْهِه"، والسِّطَامُ -أو الإسْطامُ-: الحَديدَةُ التي تُحَرَّكُ بها النَّارُ وتُسَعَّرُ، أي: أَقْطَعُ له ما يُسَعِّرُ به النَّارَ على نفْسِه ويُشْعِلُها، أو أقْطَعُ له نارًا مُسَعَّرةً؛ وتَقْديرُه: ذاتُ إسْطامٍ. قال: "فبَكى الرَّجُلانِ، وقال كلُّ واحِدٍ مِنهُما: يا رَسولَ اللهِ، حقِّي له"، وكأنَّهما خافَا مِن كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ وتَحْذيرِه إيَّاهم، وهُما يَعْلَمانِ أنَّ الأرْضَ ليسَتْ لأَحَدِهما، "فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ: تَوَخَّيَا"، أي: اطْلُبا الحقَّ وتَحَرَّيَاه فيما بيْنَكما، "ثُمَّ اسْتَهِما"، أي: فأَجْرِيَا القُرْعةَ فيما بيْنَكما على أمْرِ تلك الأرْضِ، أي: مَن له الحقُّ في هذه الأرْضِ، "ثُمَّ لِيُحَلِّلْ كلُّ واحِدٍ منْكما صاحِبَه"، والمُرادُ: أنَّ مَن ثَبَتَتْ له الأرْضُ بالقُرْعةِ فإنَّه يَجْعَلُ ما قد يكونُ له مِن حقٍّ حلالًا للآخَرِ، حتى لا يُوقِعَ بعْضُهما بعْضًا في الإثْمِ والحَرَجِ. في الحديثِ: أنَّ البَشَرَ لا يَعْلَمون ما غُيِّبَ عنهم. وفيه: أنَّ بعضَ النَّاسِ أَدْرى بمَواضِعِ الحُجَّةِ وتَصَرُّفِ القَوْلِ مِن بعْضٍ. وفيه: أنَّ القاضِيَ إنَّما يَقْضي على الخَصْمِ بما يَسْمعُ منه مِن إقْرارٍ، وإنْكارٍ، أو بيِّناتٍ، على حَسَبِ ما أَحْكَمَتْه السُّنَّةُ في ذلك. وفيه: أنَّ التحرِّيَ جائزٌ في أَداءِ المَظالِمِ. وفيه: أنَّ الحاكمَ له الاجْتِهادُ فيما لم يَكُنْ فيه نَصٌّ. وفيه: أنَّ للقاضي أنْ يَعِظَ ويُخَوِّفَ المُتَخاصِمَيْنِ مِن عَذابِ الآخرَةِ إنِ اجْتَهدَ أَحَدُهم في أَخْذِ ما ليس له.