موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الخامِسُ: الواجِبُ شرعًا لا يَحتاجُ إلى القَضاءِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الواجِبُ شرعًا لا يَحتاجُ إلى القَضاءِ" [166] يُنظر: ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/175). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
ما كان واجِبًا شَرعًا بأن ألزَمَ الشَّرعُ المُكَلَّفَ بفِعلِه أو ألزَمَه بتَركِه، فإنَّه لا يَلزَمُ لثُبوتِه في ذِمَّةِ المُكَلَّفِ قَضاءُ القاضي به؛ لأنَّه قد لزِمَ بالشَّرعِ ابتِداءً، فلا يَفتَقِرُ إلى حُكمِ الحاكِمِ، إلَّا إذا كان يَفتَقِرُ إلى النَّظَرِ والاجتِهادِ، فيَحتاجُ للقاضي لفَصلِ النِّزاعِ فيه [167] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (4/352)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/175)، ((حاشية الخلوتي على منتهى الإرادات)) (4/219). ، وقد بَيَّنَ القَرافيُّ ضابِطَ ما يَفتَقِرُ لحُكمِ الحاكِمِ مُبَيِّنًا أنَّ الموجِبَ لذلك ثَلاثةُ أسبابٍ:
السَّبَبُ الأوَّلُ: كَونُ ذلك الحُكمِ يَحتاجُ إلى نَظَرٍ وتَحريرٍ، وبَذلِ جُهدٍ مِن عالمٍ بَصيرٍ، حَكَمٍ عَدلٍ في تَحقيقِ سَبَبِه ومِقدارِ مُسَبَّبِه، ومِثالُه: الطَّلاقُ بالإعسارِ؛ لأنَّه يَفتَقِرُ إلى تَحقيقِ الإعسارِ.
السَّبَبُ الثَّاني: كَونُ تَفويضِه لجَميعِ النَّاسِ يُفضي إلى الفِتَنِ والشَّحناءِ، والقَتلِ والقِتالِ، وفسادِ النَّفسِ والمالِ، ومِثالُه: الحُدودُ؛ فإنَّها مُنضَبِطةٌ في أنفُسِها، لا تَفتَقِرُ إلى تَحريرِ مَقاديرِها إلَّا أنَّ إسنادَها إلى النَّاسِ يُسَبِّبُ فِتَنًا وشَحناءَ.
السَّبَبُ الثَّالثُ: قوَّةُ الخِلافِ مَعَ تَعارُضِ حُقوقِ اللهِ تعالى وحُقوقِ الخَلقِ، فوجَبَ افتِقارُ ذلك للحاكِمِ؛ لأنَّه نائِبُ اللَّهِ تعالى في أرضِه خِلافةً عن نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا أنشَأ حُكمًا مِمَّا تَقبَّله ذلك المَحَلُّ تَعَيَّنَ فيه ووجَبَ الإذعانُ إليه. ومِثالُه: مَن أعتَقَ نِصفَ عَبدِه لا يُكمَلُ عليه بَقيَّتُه إلَّا بالحُكمِ؛ لتَعارُضِ حَقِّ اللهِ تعالى في العِتقِ، وحَقِّ السَّيِّدِ في المِلكِ، وحَقِّ العَبدِ في تَخليصِ الكَسبِ، وقوَّةِ الخِلافِ في التَّكميلِ عليه.
فهذه الأسبابُ الثَّلاثةُ هيَ الموجِبةُ للافتِقارِ للحُكَّامِ ووُلاةِ الأُمورِ، فإذا لم يوجَدْ شَيءٌ مِنها تَبعَ الحُكمُ سَبَبَه الشَّرعيَّ، حَكَم به حاكِمٌ أم لا [168] يُنظر: ((الإحكام في تمييز الفتاوى)) للقرافي (ص: 151-158). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالمَعقولِ، وهو: أنَّ قَضاءَ القاضي إنَّما يَكونُ في المُجتَهَدِ فيه، أمَّا ما ثَبَتَ بالشَّرعِ نَصًّا أو إجماعًا فإنَّه لازِمٌ بنَفسِه، فلم يَكُنْ بحاجةٍ إلى الحُكمِ وقَضاءِ القاضي به؛ إذ لا اجتِهادَ فيه [169] يُنظر: ((معلمة زايد)) (10/465). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يَجِبُ على كُلِّ واحِدٍ مِنَ العاقِدَينِ فَسخُ العَقدِ الفاسِدِ؛ لأنَّه مَعصيةٌ فيَجِبُ رَفعُها، ولا يَتَوقَّفُ على قَضاءِ قاضٍ؛ لأنَّ الواجِبَ شَرعًا لا يَحتاجُ للقَضاءِ [170] يُنظر: ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/175)، ((حاشية الخلوتي على منتهى الإرادات)) (4/219)، ((الدر المختار)) للحصكفي (1/418)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/190). ، ولو أصَرَّا على إمساكِ المَبيعِ بَيعًا فاسِدًا وعَلِمَ بذلك القاضي، فله فَسخُه جَبرًا عليهما، حَقًّا للشَّرعِ [171] يُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (1/418). .
2- وُجوبُ النَّفقةِ على الرَّجُلِ لأولادِه، وذلك واجِبٌ شَرعًا عليه، ولا يَحتاجُ إلى القَضاءِ [172] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 295). .

انظر أيضا: