موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: الأصلُ في تَصَرُّفاتِ المُسلمينَ الصِّحَّةُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "الأصلُ في أقوالِ المُسلمينَ وأعمالِهمُ الصِّحَّةُ" [173] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/274). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بصيغةِ: "الأصلُ أنَّ أُمورَ المُسلمينَ مَحمولةٌ على السَّدادِ والصَّلاحِ حتَّى يَظهَرَ غَيرُه" [174] يُنظر: ((رسالة في أصول الفقهـ)) للكرخي مطبوع مع ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 162). ، وبصيغةِ: "ظاهِرُ أُمورِ المُسلِمينَ مَحمولٌ على الصِّحَّةِ" [175] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/107). ، و"حَملُ أُمورِ المُسلمينَ على الصِّحَّةِ واجِبٌ" [176] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (8/277). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الأصلُ في أقوالِ المُسلمينَ وأعمالِهم حَملُها على الصِّحَّةِ، فلا يُظَنُّ بهم خِلافُ ذلك إلَّا لأمارةٍ ظاهرةٍ، فمَتى أمكَنَ حَملُ القَولِ أوِ الفِعلِ أوِ العَقدِ على جِهةٍ صحيحةٍ حُمِل عليها؛ ليَصِحَّ القَولُ أوِ الفِعلُ أوِ العَقدُ، ويَحصُلَ مَقصودُ المُتَكَلِّمِ وغَرَضُه، فالأصلُ حُسنُ الظَّنِّ بالمُسلمينَ، وهذا يَقتَضي حَملَ أفعالِهم وأقوالِهم على الجِهةِ الصَّحيحةِ مَتى ما أمكَنَ ذلك [177] يُنظر: ((رسالة في أصول الفقهـ)) للكرخي مطبوع مع ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 162، 163)، ((الفروق)) للكرابيسي (2/106)، ((الفروق)) للقرافي (2/195)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/274). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّ قَومًا قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ قَومًا يَأتونَنا باللَّحمِ لا نَدري أذَكَروا اسمَ اللهِ عليه أم لا؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: سَمُّوا اللَّهَ عليه وكُلوه )) [178] أخرجه البخاري (2057). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الظَّاهرَ مِنَ المُسلمِ أنَّه يُسَمِّي، فيُحمَلُ أمرُه على أحسَنِ أحوالِه، ولا يَلزَمُنا سُؤالُه عن هذا؛ فدَلَّ على أنَّ ما ذَبَحَه المُسلمُ يُؤكَلُ ويُحمَلُ على أنَّه سَمَّى عليه عِندَ ذَبحِه؛ لأنَّ المُسلمَ لا يُظَنُّ به في كُلِّ شَيءٍ إلَّا الخَيرُ، حتَّى يَتَبَيَّنَ خِلافُ ذلك [179] يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (4/385)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/636). .
2- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن نَقَله: ابنُ الهُمامِ [180] قال: (... لكِنَّ الأصحابَ اقتَحَموه بناءً على أصلٍ إجماعيٍّ، وهو أنَّ مَهما أمكَنَ تَصحيحُ تَصَرُّفِ المُسلِمِ العاقِلِ يُرتَكَبُ، وله نَظائِرُ كَثيرةٌ). ((فتح القدير)) (7/146). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا صَلَّى المُسلِمُ إلى جِهةٍ مُعَيَّنةٍ قاصدًا القِبلةَ مِن غَيرِ شَكٍّ ولا تَحَرٍّ، فإن تَبَيَّن أنَّه أصابَ أو أغلَبُ ظَنِّه أنَّه أصابَ، أو لم يَتَبَيَّنْ مِن حالِه شَيءٌ، فصَلاتُه صحيحةٌ؛ لأنَّ فِعلَ المُسلمِ مَحمولٌ على الصِّحَّةِ ما أمكَنَ. فكُلُّ مَن قامَ لأداءِ الصَّلاةِ يُجعَلُ مُستَقبِلًا للقِبلةِ في أدائِها باعتِبارِ الظَّاهرِ وحَملِ أمرِه على الصِّحَّةِ، حتَّى يَتَبَيَّنَ خِلافُ ذلك [181] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 192). .
2- إذا وجَدَ المُسلِمُ لحمًا قد ذَبَحَه غَيرُه جازَ له أن يَأكُلَ مِنه، ويَذكُرَ اسمَ اللهِ عليه؛ لحَملِ أمرِ النَّاسِ على الصِّحَّةِ والسَّلامةِ [182] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 70)، ((مجموع الفتاوى)) (35/ 240)، كلاهما لابن تيمية. .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
تَنبيهٌ:
أفادَتِ القاعِدةُ أنَّ تَصَرُّفاتِ المُسلمينَ مَحمولةٌ على الصِّحَّةِ، لكِنَّ هذا الإطلاقَ مُقَيَّدٌ بأمرَينِ:
1- أن لا يَرِدَ حُكمٌ خاصٌّ بهذا التَّصَرُّفِ سَواءٌ بالتَّحليلِ أوِ التَّحريمِ:
فتَصَرُّفاتُ المُسلمينَ إذا أُطلِقَت ولمَ تُقَيَّدْ بما يَقتَضي حِلَّها ولا تَحريمَها فإنَّها تَنصَرِفُ للتَّصَرُّفاتِ المُباحةِ دونَ المُحَرَّمةِ؛ لأنَّ ذلك ظاهِرُ حالِ المُسلمينَ [183] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/ 195- 196). .
2- عَدَمُ غَلبةِ الفسادِ في مُعامَلاتِ النَّاسِ:
فإذا فسَدَت ذِمَمُ النَّاسِ، وأصبَحوا لا يُبالونَ بحُدودِ الشَّرعِ حتَّى غَلبَ الحَرامُ والفسادُ في تَصَرُّفاتِهم، فيَكونُ الفَسادُ حينَئِذٍ هو الأصلَ. فالأصلُ صِحَّةُ المُعامَلةِ، إلَّا أن يَغلبَ الفسادُ فيَكونَ هو الأصلَ حينَئِذٍ [184] يُنظر: ((توضيح الأحكام)) للتوزري (1/ 24)، ((معلمة زايد)) ((8/ 352). .

انظر أيضا: