موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: الحُكمُ إذا ثَبَتَ بجُملةٍ يَبقى ببَقاءِ الواحِدِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الحُكمُ إذا ثَبَتَ بجُملةٍ يَبقى ببَقاءِ الواحِدِ" [141] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 487). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الحُكمُ قد يَتَعَلَّقُ بفردٍ، وقد يَتَعَلَّقُ بجَماعةٍ؛ فإذا تَعَلَّقَ بفردٍ بَقيَ ببَقاءِ الفردِ، وإذا تَعَلَّقَ الحُكمُ بجَماعةٍ مِنَ النَّاسِ فإنَّ الحُكمَ يَظَلُّ مُستَمِرًّا ما بَقيَ مِن هذه الجَماعةِ واحِدٌ، ولا يَسقُطُ الحُكمُ بذَهابِ بَعضِهم، بَل يَظَلُّ مُستَمِرًّا ما بَقِيَت هذه الجَماعةُ أو بَقيَ مِنها فردٌ واحِدٌ [142] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 480- 487)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (3/193). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((وذِمَّةُ المُسلمينَ واحِدةٌ يَسعى بها أدناهم)) [143] أخرجه مسلم (1371). ، وفي رِوايةٍ عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((وذِمَّةُ المُسلمينَ واحِدةٌ، فمَن أخَفرَ مُسلِمًا فعليه مِثلُ ذلك)) [144] أخرجها البخاري (3172). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على أنَّ الجَماعةَ اعتُبرَت كالشَّخصِ الواحِدِ حُكمًا في "باب الأمنِ"، كَما اعتُبرَت أيضًا في مَواطِنَ أُخرى، مِثلُ السُّترةِ في الصَّلاةِ؛ فإنَّ سُترةَ الإمامِ سُترةٌ للقَومِ، وكَما أنَّ صَلاةَ الجَماعةِ واحِدةٌ عِندَنا وإنِ اشتَمَلت على ألفِ صَلاةٍ، فكذلك ذِمَّةُ المُسلمينَ أيضًا، سَواءٌ كان المُعاهَدونَ واحِدًا أو ألفًا [145] يُنظر: ((فيض الباري)) لمحمد أنور شاه (4/ 290). ويُنظر أيضًا: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 443-444). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو حَصَل ارتِدادٌ جَماعيٌّ، فارتَدَّ أهلُ بَلدٍ عنِ الإسلامِ، فإنَّهم يُقاتَلونَ لكِن لا تَصيرُ بلادُهم دارَ حَربٍ عِندَ أبي حَنيفةَ، إلَّا إذا لم يَبقَ فيها مُسلِمٌ آمِنٌ بإيمانِه، أو ذِمِّيٌّ آمِنٌ بأمانِه؛ لأنَّ الحُكمَ إذا ثَبَتَ بجُملةٍ يَبقى ببَقاءِ الواحِدِ [146] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) (ص: 480- 487)، ((المبسوط)) (10/114) كلاهما للسرخسي، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (22/190،189). .
2- لو حاصَرَ المُسلمونَ حِصنًا ثُمَّ طَلبَ أهلُه الأمانَ مِنَ المُسلمينَ مُدَّةَ سَنةٍ مُقابِلَ مالٍ يَدفعونَه، ورَضيَ المُسلمونَ بذلك، فلا يَجوزُ لهم أن يُقاتِلوا أهلَ هذا الحِصنِ ما دامَ قد بَقيَ مِنَ السَّنةِ المُتَّفَقِ عليها يَومٌ واحِدٌ، أو لم يَبقَ مِن أهلِ الحِصنِ إلَّا رَجُلٌ واحِدٌ [147] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (3/ 193). ويُنظر أيضًا: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 488-489). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ عِندَ الحَنَفيَّةِ:
لو أنَّ سَريَّةً صالحوا أهلَ حِصنٍ على مَبلغٍ مِنَ المالِ، وقال أهلُ الحِصنِ في الصُّلحِ: نوافِقُ على أن لا تَعرِضوا أنتُم لنا حتَّى تَخرُجوا إلى دارِ الإسلامِ، ففعَلوا ذلك، ثُمَّ جاءَت سَريَّةٌ أُخرى فلهم أن يُقاتِلوا أهلَ الحِصنِ مِن غَيرِ أن يَرُدُّوا عليهم شَيئًا؛ لأنَّهم إنَّما استَأمَنوا مِنَ السَّريَّةِ الأولى خاصَّةً ليُزيلوا تَعَرُّضَهم عنهم، ومَقصودُهم مِن أداءِ المال هنا أن تَنصَرِفَ عنهمُ السَّريَّةُ التي أحاطَت بهم، وقد حَصَل هذا المَقصودُ لهم.
ولو لم يَرجِعْ أهلُ السَّريَّةِ الأولى كُلُّهم بَل بَقيَ بَعضُهم، ثُمَّ جاءَتِ السَّريَّةُ الثَّانيةُ، فلهم أن يُقاتِلوا جَميعًا أهلَ الحِصنِ مِن غَيرِ أن يَرُدُّوا عليهم شَيئًا مِنَ المالِ، وكان يَنبَغي في القياسِ على قَولِ أبي حَنيفةَ: أنَّه وإن بَقيَ واحِدٌ مِنهم في دارِ الحَربِ لا يَحِلُّ قِتالُهم بدونِ رَدِّ المالِ؛ لأنَّ الحُكمَ إذا ثَبَتَ بجُملةٍ يَبقى ببَقاءِ الواحِدِ، كَما قال في البَلدةِ التي ارتَدَّ أهلُها، وبَقيَ فيها مُسلِمٌ أو ذِمِّيٌّ آمِنٌ: إنَّها لا تَصيرُ دارَ حَربٍ. ولكِنَّ هذا القياسَ مَتروكٌ هنا؛ لأجلِ التَّعَذُّرِ [148] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 480- 487). .

انظر أيضا: