موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأربَعونَ: لا عِبرةَ بالظَّنِّ البَيِّنِ خَطَؤُه


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "لا عِبرةَ بالظَّنِّ البَيِّنِ خَطَؤُه" [725] يُنظر: ((منهاج الوصول)) للبيضاوي (ص: 58)، ((إبراز الحكم)) لتقي الدين السبكي (ص: 88)، ((المنثور)) للزركشي (2/353)، ((الفوائد الجسام)) للبلقيني (ص: 357)، ((النجم الوهاج)) للدميري (3/311)، ((الغيث الهامع)) للعراقي (ص: 85)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 157)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 134)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 24). ، وصيغةِ: "الظَّنُّ البَيِّنُ خَطَؤُه لا يُؤَثِّرُ" [726] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/364). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
لا اكتِراثَ ولا مُبالاةَ بالظَّنِّ البَيِّنِ خَطَؤُه، بَل يُلغى ويُجعَلُ كَأن لم يَكُنْ، سَواءٌ أكان الخَطَأُ ظاهرًا ومُبَيِّنًا للحالِ، أو كان خَفيًّا ثُمَّ ظَهَرَ بَعدُ، فإذا وقَعَ فِعلٌ بناءً على ظَنٍّ فإنَّه لا يُعتَبَرُ ذلك، وإذا حَدَثَ فِعلٌ استِنادًا على ظَنٍّ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أنَّه مُخالِفٌ للحُكمِ الشَّرعيِّ يَجِبُ عَدَمُ اعتِبارِه. فإذا بُنيَ حُكمٌ أوِ استِحقاقٌ عن ظَنٍّ تبَيَّن خَطَؤُه، كان باطِلًا، ويَجِبُ الرُّجوعُ إلى حُكمِ الشَّرعِ؛ لأنَّ الظَّنَّ المَجوِّزَ للعَمَلِ إذا بانَ خِلافُه باليَقينِ بَطَل ذلك العَمَلُ، وصارَ غَيرَ مُعتَدٍّ به غالبًا؛ لأنَّه صارَ باطِلًا، وكُلُّ ما بُنيَ على باطِلٍ فهو باطِلٌ [727] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/72)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 357)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/178). .
ولفظُ (البَيِّن خَطَؤُهـ) في القاعِدةِ يَشمَلُ صورَتَينِ:
1- يَشمَلُ خَطَأَ الظَّنِّ باعتِبارِ أنَّ المُكَلَّفَ ظَنَّ استِمرارَه على تلك الحالِ التي أدَّى مَعَها العِبادةَ على وجهٍ مِنَ التَّخفيفِ.
2- يَشمَلُ فِعلَ المُكَلَّفِ غَيرَ ما طُلِبَ مِنه شَرعًا بناءً على ظَنٍّ خاطِئٍ [728] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/483). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الظَّنَّ الذي تَبَيَّنَ خَطَؤُه لا أثَرَ له في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ فلا يَقوى على إزالةِ اليَقينِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إحدى صَلاتَيِ العَشيِّ -قال ابنُ سِيرينَ: سَمَّاها أبو هرَيرةَ، ولَكِن نَسِيتُ أنا- قال: فصَلَّى بنا رَكعَتَينِ ثُمَّ سَلَّمَ، فقامَ إلى خَشَبةٍ مَعروضةٍ في المَسجِدِ، فاتَّكَأ عليها كَأنَّه غَضبانُ، ووَضَع يَدَه اليُمنى على اليُسرى، وشَبَّك بَينَ أصابِعِه، ووضَع خَدَّه الأيمَنَ على ظَهرِ كَفِّه اليُسرى، وخَرَجَتِ السَّرَعانُ مِن أبوابِ المَسجِدِ، فقالوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ! وفي القَومِ أبو بَكرٍ وعُمَرُ، فهابا أن يُكَلِّماه، وفي القَومِ رَجُلٌ في يَدَيه طولٌ، يُقالُ له: ذو اليَدَينِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، أنسِيتَ أم قَصُرَت الصَّلاةُ؟ قال: لم أنسَ ولم تَقصُرْ، فقال: أكما يَقولُ ذو اليَدَينِ؟ فقالوا: نَعَمْ، فتَقدَّم فصَلَّى ما تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وسَجَدَ مِثلَ سُجودِه أو أطوَلَ، ثُمَّ رَفعَ رَأسَه وكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وسَجَدَ مِثلَ سُجودِه أو أطوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَه وكَبَّرَ، فرُبَّما سَألوه: ثُمَّ سَلَّمَ؟ فيَقولُ: نُبِّئتُ أنَّ عِمرانَ بنَ حُصَينٍ قال: ثُمَّ سَلَّمَ)) [729] أخرجه البخاري (482) واللفظ له، ومسلم (573). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مُرادَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه: ((لم أنسَ ولم تَقصُرْ)): الإخبارُ عن ظَنِّه لا عنِ الواقِعِ، فكَأنَّه قال: (في ظَنِّي)، وإنَّما لم يُصَرِّحْ بذلك لدَلالةِ الحالِ عليه، ولم يعتَدَّ بهذا الظَّنِّ الذي بانَ خَطَؤُه [730] يُنظر: ((رفع الاشتباهـ)) للمعلمي (2/365). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ؛ مِنها:
1- لو ظَنَّ المُكَلَّفُ أنَّه مُتَطَهِّرٌ فصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ له الحَدَثُ، أو ظَنَّ دُخولَ الوقتِ فصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ أنَّه صَلَّى قَبلَ الوقتِ، أو ظَنَّ طَهارةَ الماءِ فتَوضَّأَ به ثُمَّ تَبَيَّنَ نَجاسَتَه، أو صَلَّى خَلفَ مَن يَظُنُّه مُسلِمًا فأخلَفَ ظَنَّه، أو دَفعَ الزَّكاةَ مِن مالٍ يَظُنُّه له فتَبَيَّنَ أنَّه لغَيرِه، أو ظَنَّ بَقاءَ اللَّيلِ في الصَّومِ فتَسحَّر، أو غُروبَ الشَّمسِ فأفطَر، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلافُه: لم يُؤَثِّرِ الظَّنُّ في هذه المَسائِلِ [731] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/353). ويُنظر أيضًا: ((النجم الوهاج)) للدميري (3/311)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 157)، ((فتح الوهاب)) لزكريا الأنصاري (1/141). .
2- إذا نادى إحدى زَوجَتَيه، فأجابَته الأُخرى فقال: أنتِ طالقٌ، وهو يَظُنُّها المُناداةَ، لم تُطلَّقِ المُناداةُ بلا خِلافٍ؛ لأنَّه لم يُخاطِبْها بالطَّلاقِ، وإنَّما ظَنَّ أنَّه يُخاطِبُها ظنًّا مُخطِئًا، وظَنُّ الخِطابِ بالطَّلاقِ لا يَقتَضي وُقوعَه؛ إذ لا عِبرةَ بالظَّنِّ البَيِّنِ خَطَؤُه [732] يُنظر: ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 239)، ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (3/1385)، ((النجم الوهاج)) للدميري (7/583)، ((بداية المحتاج)) لابن قاضي شهبة (3/279). .
3- إذا ظَنَّ المُكَلَّفُ أنَّه لا يَعيشُ إلى آخِرِ الوقتِ في الواجِبِ الموسَّعِ تَضَيَّق عليه الوقتُ؛ اعتِبارًا بظَنِّه، فإن أخَّرَ العِبادةَ عَصى، وإذا تَخَلَّف ظَنُّه فعاشَ وفعَلَها في الوقتِ ففِعلُه أداءٌ عِندَ الجُمهورِ، مِنهمُ الأئِمَّةُ الأربَعةُ وأتباعُهم؛ لبَقاءِ الوقتِ، ولا عِبرةَ بالظَّنِّ البَيِّنِ خَطَؤُه [733] يُنظر: ((منهاج الوصول)) للبيضاوي (ص: 58)، ((الغيث الهامع)) للعراقي (ص: 85)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (1/377)، ((التحبير)) للمرداوي (2/917). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ يَكونُ الاعتِبارُ فيها لِما ظَنَّه المُكَلَّفُ لا لما في نَفسِ الأمرِ؛ مِنها:
1- لو صَلَّى خَلفَ مَن يَظُنُّه مُتَطَهِّرًا فبانَ حَدَثُه، تَصِحُّ صَلاتُه إذا لم يَكُنْ في الجُمُعةِ؛ لأنَّ طَهارةَ الإمامِ تَخفى غالبًا [734] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/354)، ((القواعد)) للحصني (2/282)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 157). .
2- لو رَأى المُتَيَمِّمُ المُسافِرُ قَومًا فظَنَّ أنَّ مَعَهم ماءً، فإنَّ تَيَمُّمَه يَبطُلُ وإن لم يَكُن مَعَهم ماءٌ؛ لأنَّه تَوجَّهَ عليه الطَّلَبُ [735] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/354)، ((القواعد)) للحصني (2/282)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 157). .
3- إذا باعَ شَخصٌ حَيَوانًا مِن آخَرَ فطَلبَه جارُه بالشُّفعةِ، فظَنَّ المُشتَري بأنَّ الشُّفعةَ تَجري في المَنقولِ كَما في غَيرِه، وسَلَّمَ الحَيَوانَ للشَّفيعِ برِضاه واختيارِه، فليسَ له بَعدَ ذلك إذا اطَّلعَ على خَطَئِه استِردادُ الحَيَوانِ؛ لأنَّه بتَسليمِه المَبيعَ يَكونُ قد عَقدَ بَينَه وبَينَ ذلك الرَّجُلِ عَقدًا جَديدًا [736] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/73)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 212). .
فائِدةٌ
يُستَفادُ مِن هذه القاعِدةِ مَسألةٌ أُصوليَّةٌ، وهيَ أنَّ المُجتَهِدَ في المَسائِلِ الظَّنِّيَّةِ إذا عَرَضَ له استِنباطٌ أو دَليلٌ آخَرُ أقوى، فيَجِبُ عليه الرُّجوعُ عن قَولِه الأوَّلِ إلى ذلك القَولِ الآخَرِ؛ لأنَّ القَولَ الأوَّلَ ثَبَتَ أنَّه كان مَبنيًّا على ظَنٍّ خاطِئٍ. وكذلك القاضي إذا حَكَمَ على ظَنِّ أنَّ حُكمَه موافِقٌ للشَّرعِ، وهو في نَفسِ الأمرِ ليسَ كذلك، فحُكمُه باطِلٌ لا عِبرةَ به، ويَجِبُ الرُّجوعُ إلى الحُكمِ الموافِقِ للشَّرعِ [737] يُنظر: ((الوجيز)) للبورنو (ص: 210). .

انظر أيضا: