المَطلبُ التَّاسِعُ والثَّلاثونَ: إذا استَنَدَ الشَّكُّ إلى أصلٍ أُمِرَ بالاحتياطِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "إذا استَنَدَ الشَّكُّ إلى أصلٍ أُمِرَ بالاحتياطِ"
[713] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (1/294)، ((شرح المنهج)) لابن المنجور (1/430)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/114). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الشَّكَّ إذا قَويَ واستَنَدَ إلى أصلٍ فالواجِبُ العَمَلُ بموجِبِ الشَّكِّ؛ أخذًا بالأحوطِ، وخاصَّةً في العِباداتِ وما يَتَعَلَّقُ بها
[714] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/114). ؛ لأنَّ الشَّكَّ في أثناءِ العِبادةِ لا يَرفعُه إلَّا اليَقينُ، ولا يَجوزُ مَعَه إلَّا الاجتِهادُ والأخذُ بالاحتياطِ، كالمُصَلِّي يَشُكُّ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ، فإنَّه يَبني على اليَقينِ؛ ليَتَحَقَّقَ الخُروجَ عَمَّا شَرَعَ فيه
[715] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/273). .
وما أتى به المُكَلَّفُ في حالِ الشَّكِّ لا على وَجهِ الاحتياطِ ولا لامتِثالِ الأمرِ فوافقَ الصَّوابَ في نَفسِ الأمرِ، فإنَّه لا يُجزِئُ
[716] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/271). .
قال المقري: (إذا استَنَدَ الشَّكُّ إلى أصلٍ كالحَلِفِ، وكان سالمَ الخاطِرِ، أُمِرَ بالاحتياطِ ... فإن لم يَستَنِدْ لم يَجِبْ)
[717] ((القواعد)) (1/294). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ المُكَلَّفَ يَنبَغي له الخُروجُ عن عُهدةِ ما شَرَعَ فيه بيَقينٍ، والشَّكُّ يُنافيه، فأُمِرَ بالأخذِ بالأحوطِ ليَتَحَقَّقَ الخُروجُ عنِ العُهدةِ بيَقينٍ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بأدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ، وبعُمومِ أدِلَّةِ قاعِدةِ اليَقينِ.
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن أبي الحَوراءِ السَّعديِّ، قال: قُلتُ للحَسَنِ بنِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما: ما حَفِظتَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: حَفِظتُ مِنه:
((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك )) [718] أخرجه الترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وأحمد (1723). صححه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (722)، والنووي في ((بستان العارفين)) (32)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/42)، والشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/284)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (25/263)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (5711)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/250)، وصحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((تغليق التعليق)) (3/210). .
- وعنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعلمُها كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ كَراعٍ يَرعى حَول الحِمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألَا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه مَحارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ )) [719] أخرجه البخاري (52) واللفظ له، ومسلم (1599). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بالاحتياطِ والأخذِ بالثِّقةِ فيما يَحتَمِلُ وجهَينِ
[720] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/100). ويُنظر أيضًا: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/166). .
- وعن أبي هرَيرةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا استَيقَظَ أحَدُكُم مِن نَومِه فلا يَغمِسْ يَدَه في الإناءِ حتَّى يَغسِلَها ثَلاثًا؛ فإنَّه لا يَدري أينَ باتَت يَدُه )) [721] أخرجه مسلم (278). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ كَونَ النَّجاسةِ على يَدِه ليسَ بيَقينٍ، ومَعلومٌ أنَّ يَدَه قد كانت طاهرةً قَبلَ النَّومِ، فهيَ على أصلِ طَهارَتِها، ومَعَ ذلك أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَبنيَ على يَقينٍ مِنَ الطَّهارةِ بغَسلِها بَعدَ الاستيقاظِ
[722] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/443). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (24/472). .
2- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ أيضًا بنَفسِ أدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ؛ مِنها:
1- إذا نَسيَ صَلاةً مِنَ الخَمسِ ولم يَعرِفْ عَينَها، فإنَّه يُصَلِّي الخَمسَ ويَبرَأُ مِمَّا عليه مَعَ الشَّكِّ في كُلِّ صَلاةٍ؛ لأنَّه أتى بها على وَجهِ الاحتياطِ
[723] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/272). .
2- المُستَحاضةُ المُتَحَيِّرةُ تُؤمَرُ بالاحتياطِ؛ حَيثُ تُجعَلُ في الصَّلاةِ طاهرًا، وفي الوطءِ حائِضًا
[724] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/271). .