موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّامِنُ والثَّلاثونَ: لا عِبرةَ بالتَّرَدُّدِ بَعدَ زَوالِه


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "لا عِبرةَ بالتَّرَدُّدِ بَعدَ زَوالِه" [708] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/434)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/80). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
إذا شَكَّ المُكَلَّفُ في العِبادةِ، ثُمَّ زال شَكُّه وتَرَدُّدُه قَبلَ الخُروجِ مِنها، فلا أثَرَ للشَّكِّ؛ لأنَّ الشَّكَّ والتَّرَدُّدَ في العِبادةِ إنَّما يُؤَثِّرُ عِندَ دَوامِه إلى آخِرِ العِبادةِ، كَما أنَّه إذا خَطَرَ الشَّكُّ، ولم يَدُمْ وزال، ولم يَنقَضِ مَعَه رُكنٌ تامٌّ، فلا أثَرَ له أصلًا [709] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (2/238)، ((المهمات)) للإسنوي (3/226)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (5/380). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ المُكَلَّفَ إذا شَكَّ في العِبادةِ فإنَّه يَبني على اليَقينِ، فإذا زال شَكُّه وتَرَدُّدُه وتَيَقَّنَ أنَّه مُصيبٌ وأنَّه على حَقٍّ، فلا أثَرَ للشَّكِّ والتَّرَدُّدِ في هذا التَّيَقُّنِ؛ إذِ اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بنَفسِ أدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ؛ مِنها:
1- لو تَيَقَّنَ الحَدَثَ وشَكَّ في الطَّهارةِ لا يَجوزُ له أن يُصَلِّيَ حتَّى يَتَوضَّأَ؛ لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الحَدَثِ. فلو تَوضَّأ ونَوى أنَّه إن كان مُحدِثًا فهو فَرضُ طَهارَتِه، وإلَّا فهو تَجديدٌ لوُضوئِه، ولو زال شَكُّه بَعدَ ذلك، وتَيَقَّنَ الحَدَثَ، لا يَجِبُ عليه إعادةُ الوُضوءِ [710] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (1/318). ويُنظر أيضًا: ((المجموع)) للنووي (1/332). .
2- لو شَكَّ -أي: تَرَدَّد- في صَلاةٍ رُباعيَّةٍ أصلى ثَلاثًا أم أربَعًا، أتى برَكعةٍ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ فِعلِها، وسَجَدَ للسَّهوِ؛ للتَّرَدُّدِ في زيادَتِها. وإن زال شَكُّه وتَرَدُّدُه قَبلَ السَّلامِ بأن تَذَكَّر أنَّ الرَّكعةَ الأخيرةَ هيَ الرَّابعةُ حَقًّا وأنَّه ما زادَ شَيئًا، فهَل يَسجُدُ للسَّهوِ؟ فيه وجهانِ:
الأوَّلُ: أنَّه يَسجُدُ؛ لفِعلِها مَعَ التَّرَدُّدِ، لأنَّ الرَّكعةَ قد تَأدَّت على التَّرَدُّدِ وضَعفِ النِّيَّةِ، وزَوالُ التَّرَدُّدِ بَعدَ ذلك لا يَرفعُ ما وقَعَ.
والثَّاني: لا يَسجُدُ؛ إذ لا عِبرةَ بالتَّرَدُّدِ بَعدَ زَوالِه، ولأنَّ المُتَّبَعَ الحَديثُ، والحَديثُ ورَدَ في دَوامِ الشَّكِّ، وإنَّما يَسجُدُ إذا كان قد فعَل قَبلَ زَوالِ شَكِّه ما يَجوزُ أن يَكونَ زائِدًا؛ فإنَّه يَسجُدُ مِن أجلِ هذا الزَّائِدِ [711] يُنظر: ((المهمات)) للإسنوي (3/226)، ((فتح الباري)) لابن رجب (9/406)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/434)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/80). .
قال إمامُ الحَرَمَينِ: (يَنشَأُ مِنَ التَّرَدُّدِ في التَّعليلِ مَسألةٌ مَذهَبيَّةٌ، وهيَ أنَّه لو صَلَّى هذه الرَّكعةَ، ثُمَّ استَيقَنَ في آخِرِ الصَّلاةِ أنَّه ما زادَ شَيئًا، وإنَّما أتى بالرَّكَعاتِ الأربَعِ، فقد قال الشَّيخُ أبو عليٍّ رَحِمَه اللهُ: إنَّه يَسجُدُ وإن زال الشَّكُّ؛ لأنَّ تلك الرَّكعةَ جَرَت وضَعفُ النِّيَّةِ مُقارِنٌ لها، فلئِن زال الشَّكُّ آخِرًا فذلك التَّرَدُّدُ قد تَحَقَّقَ مُقارِنًا لِما مَضى. وكان شَيخي يَقطَعُ في هذه الصُّورةِ بأنَّه لا يَسجُدُ للسَّهوِ؛ فإنَّه كان لا يَعتَمِدُ معنًى في الأمرِ بالسُّجودِ، وإنَّما كان التَّعويلُ على الحَديثِ، وظاهِرُ الحَديثِ في دَوامِ الشَّكِّ والتَّرَدُّدِ) [712] ((نهاية المطلب)) (2/238). .

انظر أيضا: