موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ السَّابعُ والثَّلاثونَ: يوقَفُ المَشكوكُ فيه حتَّى يَتَبَيَّنَ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "يوقَفُ المَشكوكُ فيه حتَّى يَتَبَيَّنَ" [700] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/173)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 186)، ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (3/1069)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/176)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 769)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/798)، ((فتح العلي المالك)) لمحمد عليش (2/385). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
مَن شَكَّ في أمرٍ وجَبَ عليه التَّوقُّفُ فيه حتَّى يَتَبَيَّنَ له الأمرُ؛ لأنَّ كُلَّ مَشكوكٍ فيه مُلغًى في الشَّريعةِ، ويُجعَلُ كالمَعدومِ الذي يُجزَمُ بعَدَمِه [701] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/111). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ اليَقينَ هو المُعتَبَرُ في ثُبوتِ الأحكامِ، والمَشكوكُ فيه لا يَقوى على مُعارَضةِ اليَقينِ، فوجَبَ الوقفُ فيه حتَّى يَتَبَيَّنَ أمرُه؛ إذِ اليَقينُ لا يُزالُ بالشَّكِّ؛ ولذلك قال ابنُ المُلقِّنِ: "يوقَفُ المَشكوكُ فيه حتَّى يَتَبَيَّنَ؛ لوُجوبِ العَمَلِ باليَقينِ، وطَرحِ المَشكوكِ فيه" [702] ((عجالة المحتاج)) (3/1069). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي هرَيرةَ، قال: ((أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ وهو في المَسجِدِ فناداه: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي زَنَيتُ -يُريدُ نَفسَه- فأعرَض عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَنَحَّى لشِقِّ وَجهِه الذي أعرَضَ قِبَلَه، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي زَنَيتُ. فأعرَض عنه، فجاءَ لشِقِّ وَجهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي أعرَضَ عنه، فلمَّا شَهِدَ على نَفسِه أربَعَ شَهاداتٍ دَعاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أبك جُنونٌ؟ قال: لا يا رَسولَ اللهِ. فقال: أحصَنتَ؟ قال: نَعَم، يا رَسولَ اللهِ. قال: اذهَبوا فارجُموه )) [703] أخرجه البخاري (6825) واللفظ له، ومسلم (1691). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ شَكَّ في أمرِه، فتَوقَّف حتَّى تَبيَّنَ له الأمرُ؛ لأنَّه سَأله فقال: ((أبك جُنونٌ)) ومِثلُ هذا لا يُقالُ إلَّا لمَن هو مَشكوكٌ فيه [704] يُنظر: ((التعليق على الكافي)) لابن عثيمين (6/29). .
2- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن نَقَله القَرافيُّ [705] قال: (هذه قاعِدةٌ مُجمَعٌ عليها، وهيَ أنَّ كُلَّ مَشكوكٍ فيه يُجعَلُ كالمَعدومِ الذي يُجزَمُ بعَدَمِهـ). ((الفروق)) (1/111). .
3- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بنَفسِ أدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ عِدَّةُ أمثِلةٍ؛ مِنها:
1- إذا ماتَ مُتَوارِثانِ بغَرَقٍ، أو حَريقٍ، أو تَحتَ هَدمٍ، أو في بلادِ غُربةٍ، أو وُجِدا قَتيلينِ في مَعرَكةٍ، فله صُوَرٌ:
الأولى: أن نَعلمَ اللَّاحِقَ ولا نَعلمَ السَّابقَ. والثَّانيةُ: أن نَعلمَ وُقوعَ المَوتَتَينِ مَعًا. والثَّالثةُ: أن لا نَعلمَ شَيئًا.
ففي هذه الصُّورِ الثَّلاثِ لا نُوَرِّثُ أحَدَهما مِن صاحِبِه، بَل نَجعَلُ مالَ كُلِّ واحِدٍ لباقي ورَثَتِه؛ لأنَّا لا نَتَيَقَّنُ استِحقاقَ واحِدٍ مِنهما؛ ولأنَّا إن وَرَّثنا أحَدَهما فقَط فهو تَحكُّمٌ. وإن وَرَّثنا كُلًّا مِن صاحِبِه تَيَقَّنَّا الخَطَأَ. وقيل: إذا تَلاحَقَ المَوتانِ ولم يُعلَمِ السَّابقُ، أُعطِيَ كُلُّ وارِثٍ لهم ما يتَيَقَّنُ له، ويوقَفُ المَشكوكُ فيه حتَّى يَتَبَيَّنَ أو يَصطَلِحوا؛ فمَثَلًا: لو غَرِقَ أخَوانِ لكُلٍّ مِنهما بنتٌ، أخَذَت بِنتُ كُلٍّ نِصفَ تَرِكةِ أبيها حتَّى يَتَبَيَّنَ المُتَأخِّرُ فتَأخُذَ بنتُه نِصفَ تَرِكةِ أبيها الباقي ونِصفَ تَرِكةِ عَمِّها، أو يَصطَلحا على شَيءٍ [706] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (6/33). ويُنظر أيضًا: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (12/481)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/176)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 769). .
2- إذا وقَعَ الشَّكُّ في الذُّكورةِ، كَما في الخُنثى المُشكِلِ، أي: المُلتَبسِ أمرُه، وهو مَن له آلتا الرَّجُلِ والمَرأةِ، وما دامَ مُشكِلًا استَحال كَونُه أبًا أو جَدًّا أو أمًّا أو زَوجًا أو زَوجةً، فإن لم يَختَلِفْ إرثُه بذُكورَتِه أو أُنوثَتِه، كَولَدِ أمٍّ ومُعتَقٍ، فذاكَ واضِحٌ أنَّه يُدفَعُ له نَصيبُه، وإنِ اختَلف إرثُه بالذُّكورةِ وضِدِّها فيُعمَلُ باليَقينِ في حَقِّه وحَقِّ غَيرِه، ويوقَفُ الباقي المَشكوكُ فيه حتَّى يَتَبَيَّنَ حالُه ولو بإخبارِه [707] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (6/425)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (4/51)، ((منح الجليل)) للحطاب (9/706). .

انظر أيضا: