موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ السَّادِسُ والثَّلاثونَ: إذا تَعارَضَ أصلانِ عُمِل بالأرجَحِ مِنهما


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ العُلماءِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ [681] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (1/206)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/689)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/33)، ((القواعد)) لابن رجب (3/120). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
قد يَتَعارَضُ في المَسألةِ أصلانِ، وليسَ المُرادُ بتَعارُضِ الأصلينِ تُقابُلَهما على وَزنٍ واحِدٍ في التَّرجيحِ؛ فإنَّ ذلك تَناقُضٌ، وإنَّما التَّعارُضُ بَينَ الأصلينِ يَكونُ بحَيثُ يَتَخَيَّلُ النَّاظِرُ في ابتِداءِ نَظَرِه تَساويَهما، ثُمَّ إذا دَقَّقَ نَظَرَه وحَقَّقَ فِكرَه رَجَّحَ، ثُمَّ تارةً يَجزِمُ بأحَدِ الأصلَينِ، وتارةً يُجري الخِلافَ ويُرَجِّحُ بما عَضَّدَه مِن ظاهرٍ أو غَيرِه [682] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (19/224)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/33)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 68). .
فإذا تَعارَضَ أصلانِ واختَلف الفُقَهاءُ فيهما، فللمُجتَهدِ تَرجيحُ ما أدَّى اجتِهادُه إلى تَرجيحِه مِن ذلك [683] يُنظر: ((المعالم)) للرازي (ص: 156)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/55)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/689). ، ويَكونُ تَرجيحُ أحَدِ الأصلينِ بقوَّةِ دَليلِه؛ لأنَّه أغلبُ على الظَّنِّ [684] يُنظر: ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 879). ، وقد يَعتَضِدُ أحَدُ الأصلينِ بظاهرٍ أو أصلٍ آخَرَ يُرَجِّحُه ويَدرَأُ عنه الخِلافَ [685] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/36). ، وأحيانًا يَتَعارَضُ أصلانِ فيُقدَّمُ أحَدُهما على الآخَرِ حَسَبَ ما تَقتَضيه الشَّريعةُ، وحَسَبَ ما تَقتَضيه قَرائِنُ الأحوالِ [686] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (10/190). .
قال البرماويُّ: (لو عورِضَ أصلٌ بأصلٍ آخَرَ، فرُجِّحَ أحَدُ الأصلَينِ، فإنَّما يَقَعُ التَّرجيحُ بأمرٍ خارِجيٍّ، فهو وإن كان فيه قَولانِ كَما في تَعارُضِ الأصلِ والظَّاهرِ إلَّا أنَّ أحَدَهما قد تَرَجَّحَ مِن جِهةٍ أُخرى) [687] ((الفوائد السنية)) (5/2134). .
فعلى المُجتَهدِ تَرجيحُ أحَدِهما بوجهٍ مِن وُجوهِ النَّظَرِ، ولا يُظَنُّ أنَّ تَقابُلَ الأصلَينِ يَمنَعُ المُجتَهِدَ مِن إخراجِ الحُكمِ؛ إذ لو كان كذلك لخَلتِ الواقِعةُ عن حُكمِ اللهِ تعالى، وهو لا يَجوزُ [688] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/330)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2134). .
فإن تَساوى الأصلانِ خُرِّجَ في المَسألةِ وَجهانِ غالبًا [689] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (3/120). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الخُروجَ عنِ العُهدةِ بيَقينٍ واجِبٌ، ولا يَكونُ ذلك إلَّا بالتَّرجيحِ؛ ولذلك عَبَّرَ عنها بَعضُ الأُصوليِّينَ بقَولِهم: (إذا تَعارَضَ أصلانِ يُحمَلُ على الأحوطِ؛ ليَخرُجَ عنِ العُهدةِ بيَقينٍ) [690] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/297). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقياسِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الكَلبِ المُعَلَّمِ إذا أكَل مِنَ الصَّيدِ: ((فإن أكَلَ فلا تَأكُلْ؛ فإنِّي أخافُ أن يَكونَ إنَّما أمسَكَ على نَفسِه )) [691] أخرجه البخاري (5487)، ومسلم (1929) واللَّفظُ له من حديثِ عَديِّ بنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مُسلمٍ: عن عَديِّ بنِ حاتِمٍ، قال: سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: إنَّا قَومٌ نَصيدُ بهذه الكِلابِ، فقال: إذا أرسَلتَ كِلابَكَ المُعَلَّمةَ، وذَكَرتَ اسمَ اللهِ عليها، فكُلْ مِمَّا أمسَكنَ عليكَ، وإن قَتَلنَ، إلَّا أن يَأكُلَ الكَلبُ، فإن أكَل فلا تَأكُلْ؛ فإنِّي أخافُ أن يَكونَ إنَّما أمسَكَ على نَفسِه، وإن خالطَها كِلابٌ مِن غَيرِها فلا تَأكُلْ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أباحَ مِن صَيدِ الجارِح المُعَلَّمِ ما أمسَكَه على صاحِبِه، وعُلمَ مِن ذلك أنَّ ما لم يَكُنْ مُعَلَّمًا فصَيدُه حَرامٌ؛ إذ لم يُمسِكْ إلَّا على نَفسِه. فدارَ بَينَ الأصلينِ ما كان مُعَلَّمًا ولكِنَّه أكَل مِن صَيدِه؛ حَيثُ إنَّ التَّعليمَ يَقتَضي أنَّه أمسَكَ عليك، والأكلُ يَقتَضي أنَّه اصطادَ لنَفسِه لا لك، فتَعارَض الأصلانِ؛ فجاءَتِ السُّنَّةُ ببَيانِ ذلك [692] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/361). .
- ومِن أدِلَّةِ السُّنَّةِ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ حَرَّمَ الزِّنا، وأحَلَّ التَّزويجَ ومِلكَ اليَمينِ، وسَكَتَ عنِ النِّكاحِ المُخالفِ للمَشروعِ؛ فإنَّه ليسَ بنِكاحٍ مَحضٍ ولا سِفاحٍ مَحضٍ؛ فجاءَ في السُّنَّةِ ما بَيَّنَ الحُكمَ في بَعضِ الوُجوهِ، فيَكونُ المَسكوتُ عنه مَحَلًّا لاجتِهادِ العُلماءِ في إلحاقِه بأحَدِ الأصلينِ مُطلقًا، أو في بَعضِ الأحوالِ، كَما في مِثالِ النِّكاحِ بغَيرِ وليٍّ قَبلَ الدُّخولِ؛ فليسَ له أثَرٌ يَتَرَتَّبُ عليه إن حَصَل الطَّلاقُ قَبلَ الدُّخولِ، وأمَّا بَعدَ الدُّخولِ فيُلحَقُ بكُلٍّ مِنَ الأصلينِ في حالةٍ وحُكمٍ. وبالأصلِ الآخَرِ في حالٍ آخَرَ؛ فجاءَ في الحَديثِ: ((أيُّما امرَأةٍ نَكَحَت بغَيرِ إذنِ وَليِّها فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فإن دَخَل بها فلها المَهرُ بما استَحَلَّ مِنها )) [693] أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُ أبي داودَ: عن عائِشةَ قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّما امرَأةٍ نَكَحَت بغَيرِ إذنِ مَواليها فنِكاحُها باطِلٌ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فإن دَخَل بها فالمَهرُ لها بما أصابَ مِنها، فإن تَشاجَروا فالسُّلطانُ وَليُّ مَن لا وليَّ لهـ)). صَحَّحه ابنُ معينٍ، والإمام أحمد كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) ليوسف بن ماجد (2/112)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (4074)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (2744)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/105)، وابن الجوزي كما في ((تنقيح التحقيق)) لمحمد ابن عبدالهادي (4/286)، والقرطبي المفسر في ((التفسير)) (3/464)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/553)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (9/97)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (3/21)، وقال أبو موسى المديني في ((اللطائف)) (556): ثابتٌ مشهورٌ يُحتَجُّ به. ، وهَكَذا سائِرُ ما جاءَ في النِّكاحِ الفاسِدِ مِنَ السُّنَّةِ [694] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/370). .
2- مِنَ القياسِ:
وهو القياسُ على تَعارُضِ الدَّليلينِ، وهذا ما استَدَلَّ به ابنُ الصَّلاحِ؛ حَيثُ قال: (إذا تَعارَض أصلانِ، أو أصلٌ وظاهرٌ: وجَبَ النَّظَرُ في التَّرجيحِ كَما في تَعارُضِ الدَّليلينِ، فإن تُرَدِّد في الرَّاجِحِ فهيَ مَسائِلُ القَولينِ، وإن تَرجَّح دَليلُ الظَّاهرِ حُكِمَ به، كَإخبارِ عَدلٍ بالنَّجاسةِ ... وإن ترَجَّح دَليلُ الأصلِ حُكِمَ به بلا خِلافٍ) [695] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (1/206)، ((المنثور)) للزركشي (1/313)، ((الفتح المبين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 237). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- لو أدرَكَ المَسبوقُ الإمامَ وهو راكِعٌ، فكَبَّرَ ورَكَعَ مَعَه، وشَكَّ: هَل رَفعَ إمامُه قَبلَ رُكوعِه أو بَعدَه، وهَل بَلغَ الحَدَّ المُعتَبَرَ قَبلَ ارتِفاعِ الإمامِ عنه؟ فالأصَحُّ لا يَكونُ مُدرِكًا للرَّكعةِ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الإدراكِ. والثَّاني: يَكونُ مُدرِكًا؛ لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الإمامِ في الرُّكوعِ وعَدَمُ الرَّفعِ [696] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/34)، ((القواعد)) لابن رجب (3/123)، ((القواعد)) للحصني (1/276). .
2- يُصَدَّقُ البائِعُ في العَيبِ المَشكوكِ فيه؛ لأنَّ الأصلَ السَّلامةُ. فإن وُجِدَ قديمًا ومَشكوكًا صُدِّقَ المُشتَري في المَشكوكِ؛ لأنَّه يُرَدُّ بالقديمِ ويَغرَمُ في المَشكوكِ على تَقديرِ الحُدوثِ عِندَه، فهو مُدَّعًى عليه الغُرمُ. وقيل: القَولُ قَولُ البائِعِ؛ لأنَّ الأصلَ سَلامةُ المَبيعِ عليه، وها هنا تَعارض أصلانِ: سَلامةُ ذِمَّةِ المُشتَري مِنَ الغُرمِ، وسَلامةُ المَبيعِ عِندَ العَقدِ. فاختَلف العُلماءُ: أيُّهما يَغرَمُ؟ فإن قال المُشتَري: المَشكوكُ حادِثٌ فأنا أُمسِكُ وآخُذُ الأَرْشَ. وقال البائِعُ: قديمٌ؛ فإمَّا أن تُمسِكَ بغَيرِ شَيءٍ أو تَرُدَّ. صُدِّقَ البائِعُ على قَولٍ؛ لأنَّه مُدَّعًى عليه الأرشُ، وصُدِّقَ المُشتَري مَعَ يَمينِه على قَولٍ آخَرَ؛ لأنَّ الأصلَ السَّلامةُ مِنه عِندَ العَقدِ، ومَتى قُلنا: يُصَدَّقُ، فله اليَمينُ على الآخَرِ، وهذه المَسألةُ أصلٌ في رَدِّ أيمانِ التُّهَمِ؛ لأنَّهما في حالِ الدَّعوى مُستَويانِ في الشَّكِّ [697] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (5/83). .
3- إذا ضَرَبَ الزَّوجُ زَوجَتَه وادَّعى نُشوزَها. وادَّعَت هيَ أنَّ الضَّربَ ظُلمٌ. فقد تعارَض هنا أصلانِ: عَدَمُ ظُلمِه، وعَدَمُ نُشوزِها.
قال ابنُ الرفعةِ: (لم أرَ فيها نَقلًا، والذي يَقوى في ظَنِّي أنَّ القَولَ قَولُه؛ لأنَّ الشَّارِعَ جَعَله وليًّا في ذلك) [698] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/36)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 72). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
فائِدةٌ:
تَعارُضُ الأصلينِ قد يَكونُ مِن أسبابِ اختِلافِ الفُقَهاءِ في المَسائِلِ الفِقهيَّةِ؛ حَيثُ يُرَجِّحُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُختَلفَينِ أصلًا، ويَبني عليه الحُكمَ.
قال الشَّاطِبيُّ: (قد يَتَعارَضُ الأصلانِ مَعًا على المُجتَهِدين؛ فيَميلُ كُلُّ واحِدٍ إلى ما غَلَبَ على ظَنِّهـ). ثُمَّ مَثَّل لذلك بالاختِلافِ في الاعتِدادِ بتَصَرُّفاتِ السَّكرانِ، فإنَّه إذا طَلَّقَ، أو أعتَقَ، أو فعَل ما يَجِبُ عليه الحَدُّ فيه أوِ القِصاصُ: عومِل مُعامَلةَ مَن فَعَلها عاقِلًا، اعتِبارًا بالأصلِ: اعتِبار المُسَبَّباتِ في الخِطابِ بالأسبابِ. وقالت طائِفةٌ بأنَّه كالمَجنونِ اعتِبارًا بالأصلِ: أنَّ المُسَبَّباتِ غَيرُ مقدورةٍ للمُكَلَّفِ، ولا هو مُخاطَبٌ بها [699] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/373). .

انظر أيضا: