المَطلبُ السَّادِسَ عَشَرَ: الأصلُ في الصِّفاتِ الأصليَّةِ الوُجودُ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الأصلُ في الصِّفاتِ الأصليَّةِ الوُجودُ"ِ
[463] يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 129)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 54)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/216)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 117)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/138). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِسَبَقَ ذِكرُ تَقسيمِ الصِّفاتِ بالنِّسبةِ إلى الوُجودِ والعَدَمِ إلى قِسمَينِ: صِفةٌ أصليَّةٌ، وصفةٌ عارِضةٌ، وسَبَقَ بَيانُ الفَرقِ بَينَهما
[464] يُنظر: شرحُ القاعدةِ: (الأصلُ في الصِّفاتِ العارضةِ أو الحادثةِ العَدَمُ). .
فالصِّفةُ الأصليَّةُ: هيَ التي توجَدُ مَعَ المَوصوفِ، وهيَ الصِّفاتُ التي يَكونُ وُجودُها في الشَّيءِ مُقارِنًا لوُجودِه، فهو مُشتَمِلٌ عليها بطَبيعَتِه غالبًا، وهذه الصِّفاتُ الأصليَّةُ الأصلُ فيها الوُجودُ والبَقاءُ حتَّى تَثبُتَ إزالتُها، كَبَكارةِ الجاريةِ، وسَلامةِ المَبيعِ مِنَ العُيوبِ، والصِّحَّةِ في العُقودِ بَعدَ انعِقادِها. ويُلحَقُ بالصِّفاتِ الأصليَّةِ الصِّفاتُ العارِضةُ التي ثَبَتَ وجودُها في وقتٍ ما؛ فإنَّ الأصلَ فيها حينَئِذٍ البَقاءُ بَعدَ ثُبوتِ وجودِها.
والصِّفةُ العارِضةُ: هيَ التي لم توجَدْ مَعَ المَوصوفِ، ولم تَتَّصِفْ بها ذاتُه ابتِداءً.
ومَعنى القاعِدةِ: أنَّ الأصلَ في الصِّفاتِ الأصليَّةِ هو وُجودُ تلك الصِّفاتِ حتَّى يَقومَ الدَّليلُ على خِلافِه، وعلى هذا فالذي يَدَّعي الصِّفةَ الأصليَّةَ فالقَولُ له، بخِلافِ الذي يَدَّعي الصِّفةَ العارِضةَ؛ لأنَّه يَدَّعي خِلافَ الأصلِ فالبَيِّنةُ عليه
[465] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/26)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 117)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 184)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/138). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ لأنَّ الذي يَتَمَسَّكُ بالصِّفةِ الأصليَّةِ مُتَمَسِّكٌ بأصلٍ مُتَيَقَّنٍ وظاهرٍ، فالقَولُ له مَعَ يَمينِه؛ لأنَّه مُدَّعًى عليه، أمَّا الذي يَدَّعي الصِّفةَ العارِضةَ فهو مُتَمَسِّكٌ بخِلافِ الأصلِ، وهو مَشكوكٌ فيه، واليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ
[466] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/110). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ فإنَّها أصلٌ لهذه القاعِدةِ؛ حَيثُ إنَّ الصِّفاتِ الأصليَّةَ ثابتةٌ بيَقينٍ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لوِ اشتَرى شَخصٌ مِن آخَرَ بَقَرةً، ثُمَّ طَلبَ المُشتَري رَدَّها لكَونِها غَيرَ حَلوبٍ، والبائِعُ أنكَرَ وُقوعَ البَيعِ على هذا الشَّرطِ، فالصِّفةُ الأصليَّةُ في البَقَرةِ كَونُها غَيرَ حَلوبٍ، وصِفةُ الحَلبِ طارِئةٌ، فالقَولُ هنا للبائِعِ الذي يَدَّعي عَدَمَ حُصولِ هذا الشَّرطِ، وعلى المُشتَري الذي يَدَّعي خِلافَ الأصلِ إثباتُ ما يَدَّعيه
[467] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/26)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 185). .
2- لوِ اشتَرى شَخصٌ مِن آخَرَ سَيَّارةً، وتسَلَّمها ثُمَّ ادَّعى أنَّ فيها عَيبًا قديمًا، وادَّعى البائِعُ سَلامَتَها مِنَ العُيوبِ، ولا بَيِّنةَ لأحَدِهما، فالقَولُ قَولُ البائِعِ مَعَ يَمينِه؛ لأنَّ الصِّحَّةَ مِنَ الصِّفاتِ الأصليَّةِ، والأصلُ فيها الوُجودُ، والذي يَدَّعي الصِّفةَ الأصليَّةَ مُتَمَسِّكٌ بأصلٍ مُتَيَقَّنٍ وظاهرٍ، فالقَولُ له مَعَ يَمينِه؛ لأنَّه مُدَّعًى عليه، والذي يَدَّعي الصِّفةَ العارِضةَ مُتَمَسِّكٌ بخِلافِ الأصلِ، وهو مَشكوكٌ فيه، فكان مُدَّعيًا، ومَنِ ادَّعى خِلافَ الأصلِ فعليه البَيِّنةُ
[468] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/26)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 184). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما يَلي:
لو كان للابنِ مالٌ عِندَ أبيه، فأنفقَ مِنه الأبُ على نَفسِه، ثُمَّ اختَلفا، فقال الابنُ للأبِ: إنَّك أنفَقتَ على نَفسِك مِنه وأنتَ موسِرٌ، وقال الأبُ: أنفَقتُ وأنا مُعسِرٌ، ولا بَيِّنةَ لأحَدِهما، فإنَّه يُحكمُ الحالُ، فلو كان الأبُ حالَ الخُصومةِ مُعسِرًا فالقَولُ له، وإن كان موسِرًا فالقَولُ لابنِه، ولو بَرهَنَ كُلٌّ مِنَ الأبِ والابنِ على دَعواهما تُقدَّمُ بَيِّنةُ الابنِ؛ لأنَّه المُدَّعي، فيُجعَلُ الإعسارُ أوِ اليَسارُ القائِمُ في الحاضِرِ مُنسَحِبًا مَعَ الماضي، وإنَّما لم يُعتَبَرْ قَولُ مُدَّعي الإعسارِ مُطلقًا مَعَ أنَّه الصِّفةُ الأصليَّةُ في الإنسانِ، والأصلُ اعتِبارُ بَقائِه؛ لأنَّ بَقاءَ ما كان على ما كان إنَّما هو عِندَ عَدَمِ قيامِ دَليلٍ على خِلافِه، ولمَّا كان قيامُ صِفةِ اليَسارِ حينَ الخُصومةِ أمارةً ظاهرةً في تَأييدِ كَلامِ مُدَّعيه طُرِح ذلك الأصلُ لقيامِ الدَّليلِ على خِلافِه، واعتُبرَ القَولُ لمُدَّعي اليَسارِ
[469] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/113). .