موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الخامِسَ عَشَرَ: الأصلُ في الصِّفاتِ العارِضةِ أوِ الحادِثةِ العَدَمُ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ في الصِّفاتِ العارِضةِ أوِ الحادِثةِ العَدَمُ" [451] يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 129)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 17)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 117)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/138). ، وصيغةِ: "الأصلُ في كُلِّ حادِثٍ عَدَمُه حتَّى يَتَحَقَّقَ" [452] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2132)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/453)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3844)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 796). ، وصيغةِ: "العَدَمُ في الصِّفاتِ العارِضةِ أصلٌ" [453] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/24)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/334). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
الصِّفاتُ بالنِّسبةِ إلى الوُجودِ والعَدَمِ على قِسمَينِ: صِفةٌ أصليَّةٌ، وصِفةٌ عارِضةٌ:
فالصِّفةُ العارِضةُ: هيَ التي لم توجَدْ مَعَ المَوصوفِ ولم تَتَّصِفْ بها ذاتُه ابتِداءً، فيَكونُ وجودُها في الشَّيءِ طارِئًا وعارِضًا، بمَعنى: أنَّ الشَّيءَ بطَبيعَتِه يَكونُ خاليًا عنها غالبًا. وهذه الصِّفاتُ العارِضةُ الأصلُ فيها العَدَمُ، ومِثلُ هذه الصِّفاتِ غَيرُها مِنَ الأُمورِ التي توجَدُ بَعدَ العَدَمِ كَسائِرِ العُقودِ والأفعالِ.
والصِّفةُ الأصليَّةُ: هيَ التي توجَدُ مَعَ المَوصوفِ.
ومَعنى القاعِدةِ: أنَّه عِندَ الاختِلافِ في ثُبوتِ الصِّفةِ العارِضةِ وعَدَمِها فالقَولُ قَولُ مَن يَتَمَسَّكُ بعَدَمِها مَعَ يَمينِه، فالأصلُ في الصِّفاتِ العارِضةِ هو عَدَمُ وُجودِ تلك الصِّفاتِ، أمَّا الصِّفاتُ الأصليَّةُ فالأصلُ هو وُجودُها، وعلى هذا فالذي يَدَّعي الصِّفةَ العارِضةَ يَدَّعي خِلافَ الأصلِ فالبَيِّنةُ عليه، أي: أنَّ الذي يَدَّعي العَدَمَ يَجِبُ عليه الإثباتُ في تلك الحالِ [454] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/26)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 117)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 184)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/138). .
ولكِن إذا قامَ دَليلٌ على خِلافِ ذلك الأصلِ، بأن كان الظَّاهِرُ مُعارِضًا له، فإنَّ الأصلَ يُترَكُ، ويتَرَجَّحُ جِهةُ الظَّاهرِ، كَما قالوا في زَوجةِ العِنِّينِ مِن أنَّها لوِ ادَّعَت عليه عَدَمَ وُصولِه إليها، وادَّعى هو الوُصولَ، وكانت بِكرًا حينَ العَقدِ، فإنَّ الحاكِمَ يُريها -حينَ الخُصومةِ- للطَّبيباتِ، فإن قُلنَ: إنَّها بِكرٌ، فالقَولُ قَولُها، وإن قُلنَ: إنَّها ثَيِّبٌ، فالقَولُ قَولُه في الوُصولِ إليها، مَعَ أنَّ الأصلَ عَدَمُ الوُصولِ؛ لأنَّ ظُهورَ ثُيوبتِها مُؤَيِّدٌ لدَعواه، فتُرِكَ به الأصلُ [455] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 119)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/140). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها: أنَّ عَدَمَ الصِّفةِ العارِضةِ هو المُتَيَقَّنُ؛ لأنَّه هو الحالةُ الطَّبيعيَّةُ، وما كان عَدَمُه هو الحالةَ الأصليَّةَ أوِ الغالِبةَ يَكونُ وُجودُه أمرًا عارِضًا، فتَغَيُّرُه إلى الوُجودِ عارِضٌ مَشكوكٌ فيه، واليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ [456] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/138). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
1- يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ، وهيَ (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّها أصلٌ لهذه القاعِدةِ.
2- يُستَدَلُّ عليها بالاستِصحابِ: وهو استِصحابُ الماضي إلى الحاضِرِ، أي: نَقلُ الحُكمِ الثَّابتِ في الماضي إلى الوقتِ الحاضِرِ حتَّى يَثبُتَ غَيرُه، فالحُكمُ الثَّابتُ في الماضي هو الصِّفةُ الأصليَّةُ، فلا يُحكَمُ بزَوالها بناءً على حُدوثِ صِفةٍ عارِضةٍ، بَل تَكونُ الصِّفةُ العارِضةُ في حُكمِ العَدَمِ [457] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/111). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لوِ اختَلف البائِعُ والمُشتَري في قَبضِ المَبيعِ أوِ الثَّمَنِ، أوِ اختَلف المُؤَجِّرُ والمُستَأجِرُ في قَبضِ المَأجورِ أو بَدَلِ الإجارةِ، فالقَولُ لمُنكِرِ القَبضِ في جَميعِ ذلك؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُه. وكذلك لوِ اختَلف العاقِدانِ في سَلامةِ المَبيعِ مِنَ العُيوبِ وعَدَمِ سَلامَتِه، أو في صِحَّةِ البَيعِ مَثَلًا وفسادِه، فالقَولُ لمَن يَتَمَسَّكُ بسَلامةِ المَبيعِ وصِحَّةِ العَقدِ؛ لأنَّه يَشهَدُ له الأصلُ [458] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 117)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/139). .
2- إذا اختَلف شَريكَا المُضارَبةِ في حُصولِ الرِّبحِ وعَدَمِه، فقال رَبُّ المالِ: رَبِحتُ ألفًا. وقال المُضارِبُ: ما حَصَل رِبحٌ. فالقَولُ للمُضارِبِ مَعَ يَمينِه؛ لتَمَسُّكِه بالأصلِ، وهو عَدَمُ الصِّفةِ العارِضةِ، وهيَ الرِّبحُ، والبَيِّنةُ على رَبِّ المالِ لإثباتِ الرِّبحِ؛ لأنَّه يَدَّعي خِلافَ الأصلِ، فيَحتاجُ للإثباتِ [459] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/26)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 185). .
3- لو أدخَلتِ المَرأةُ حَلَمةَ ثَديِها في فمِ الرَّضيعِ، ولم يُعلَمْ هَل دَخَل اللَّبَنُ في حَلقِه أو لا، فإنَّ النِّكاحَ لا يَحرُمُ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ المانِعِ الذي هو دُخولُ اللَّبَنِ [460] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 58)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 118)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/139). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ ما يَلي:
1- إذا أرادَ الواهِبُ الرُّجوعَ عنِ الهبةِ، وادَّعى المَوهوبُ تَلَفَ الهبةِ، فالقَولُ له بلا يَمينٍ؛ لأنَّ تَلَفَ الهبةِ صِفةٌ عارِضةٌ، وهيَ خِلافُ الأصلِ، فكان مِنَ الواجِبِ بمُقتَضى هذه القاعِدةِ أن يَكونَ المَوهوبُ مُكَلَّفًا بإثباتِ ذلك، ولكِن بما أنَّ المَوهوبَ يُنكِرُ هنا وُجوبَ الرَّدِّ على الواهِبِ، فأصبَحَ شَبيهًا بالمُستَودَعِ الذي يَدَّعي بَراءةَ الذِّمَّةِ [461] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/26)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 186). .
2- إذا تَصَرَّف الزَّوجُ في مالِ زَوجَتِه فأقرَضَه آخَرَ، وتوُفِّيَتِ الزَّوجةُ، وادَّعى وارِثُها أنَّ الزَّوجَ تَصَرَّف في المالِ بدونِ إذنٍ، وطَلبوا الحُكمَ بضَمانِه، وادَّعى الزَّوجُ أنَّ تَصَرُّفَه كان بإذنِها، فالقَولُ للزَّوجِ مَعَ يَمينِه، مَعَ أنَّ الإذنَ الذي ادَّعاه الزَّوجُ مِنَ الصِّفاتِ العارِضةِ، فكان الواجِبُ أن يَكونَ القَولُ للورَثةِ، ولكِنَّ الزَّوجَ هنا يُنكِرُ الضَّمانَ، ويَتَمَسَّكُ بأصلٍ أقوى، وهو بَراءةُ الذِّمَّةِ؛ فكان القَولُ له مَعَ يَمينِه [462] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/27)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 186). .

انظر أيضا: