موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَث الأوَّلُ: قاعِدةُ اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
الصِّيغةُ المَشهورةُ المُتَداوَلةُ للقاعِدةِ عِندَ الفُقَهاءِ: "اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ". ولهم تَعبيراتٌ أُخرى قَريبةٌ مِن هذه الصِّيغةِ، كَقَول الزَّركَشيِّ: (اشتَهَرَ مِن قَواعِدِ الفُقَهاءِ أنَّ: اليَقينَ لا يُرفعُ بالشَّكِّ) [196] ((المنثور)) (2/286). . و"لا يُدفَعُ اليَقينُ إلَّا بيَقينٍ" [197] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (6/ 262). ، و"ما ثَبَتَ بيَقينٍ لا يَرتَفِعُ إلَّا بيَقينٍ" [198] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/135). . ومِنَ العِباراتِ: "كُلُّ مَشكوكٍ فيه مُلغًى في الشَّريعةِ" [199] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/ 111). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
المُرادُ بذلك أنَّ استِصحابَ الأصلِ المُتَيَقَّنِ لا يُزيلُه شَكٌّ طارِئٌ عليه، وأنَّ اليَقينَ لا يُزالُ إلَّا بيَقينٍ، فالأصلُ الاستِمرارُ عليه، فيَكونُ حُكمُ اليَقينِ السَّابق مُستَدامًا في حالِ الشَّكِّ، فإذا تَيَقَّنَّا وُجودَ شَيءٍ أو عَدَمَه، ثُمَّ شَكَكنا في تَغَيُّرِه وزَوالِه عَمَّا كان عليه، فإنَّا نَستَصحِبُ اليَقينَ الذي كان، ونَطرَحُ الشَّكَّ [200] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1267)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/307)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/13)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/132). .
قال الرَّافِعيُّ: (لا نَعني بقَولِنا: "اليَقينُ لا يُرفعُ ولا يُترَكُ بالشَّكِّ" يَقينًا حاضِرًا؛ فإنَّ الطَّهارةَ والحَدَثَ نَقيضانِ، ومَهما شَكَكْنا في أحَدِ النَّقيضَينِ فمُحالٌ أن نَتَيَقَّنَ الآخَرَ، ولكِنَّ المُرادَ: أنَّ اليَقينَ الذي كان لا يُترَكُ حُكمُه بالشَّكِّ، بَل يُستَصحَبُ؛ لأنَّ الأصلَ في الشَّيءِ الدَّوامُ والاستِمرارُ، فهو في الحَقيقةِ عَمَلٌ بالظَّنِّ، وطَرحٌ للشَّكِّ) [201] ((العزيز في شرح الوجيز)) (1/170). وقال ابنُ السُّبكيِّ: (مَعَ وِجدانِ الشَّكِّ لا يَقينٌ، ولكِنِ استِصحابٌ لِما تُيُقِّنَ في الماضي، وهو الأصلُ، وأُطلِقَ عليه اليَقينُ مَجازًا). ((الإبهاج)) (6/2619). .
ويُشتَرَطُ لإعمالِ هذه القاعِدةِ ما يَلي [202] يُنظر: ((قاعدة اليقين لا يزول بالشك)) للباحسين (ص: 55 وما بعدها). :
1- اتِّحادُ القَضيَّتَينِ المُتَيَقَّنةِ والمَشكوكِ فيها في المُتَعَلَّقِ، والمَقصودُ بذلك أن يَكونَ ما تَعَلَّق به اليَقينُ هو ما تَعَلَّق به الشَّكُّ.
ووجهُ اشتِراطِ هذا في القاعِدةِ أنَّه عِندَ اختِلافِ المُتَعَلَّقِ لا يَكونُ الشَّكُّ شَكًّا في البَقاءِ، بَل في حُدوثِ قَضيَّةٍ جَديدةٍ، فلا يَكونُ هناكَ نَقضٌ لليَقينِ بالشَّكِّ.
2- اختِلافُ زَمانَي حُدوثِ اليَقينِ والشَّكِّ في زَمَنٍ واحِدٍ، ويَكونُ ذلك بتَقدُّمِ زَمَنِ اليَقينِ على زَمَنِ الشَّكِّ؛ ليَصدُقَ عَدَمُ نَقضِ اليَقينِ بالشَّكِّ؛ لأنَّه مِنَ المُستَحيلِ اجتِماعُ زَمانِ اليَقينِ والشَّكِّ، مَعَ كَونِ المُتَيَقَّنِ هو المَشكوكَ فيه نَفسَه؛ لِما في ذلك مِنَ الجَمعِ بَينَ النَّقيضَينِ، وهو مُحالٌ.
3- اجتِماعُ اليَقينِ والشَّكِّ في زَمَنٍ واحِدٍ، والمَقصودُ أن يَتَّفِقَ حُصولُ اليَقينِ والشَّكِّ في آنٍ واحِدٍ، لا بمَعنى أنَّ مَبدَأَ حُدوثِهما يَكونُ في زَمانٍ واحِدٍ؛ لأنَّ ذلك مِنَ المُحالِ.
4- اتِّصالُ زَمانِ الشَّكِّ بزَمانِ اليَقينِ، والمَقصودُ بذلك أنْ لا يوجَدَ فاصِلٌ بَينَهما يَتَخَلَّلُه يَقينٌ آخَرٌ؛ لأنَّ دُخولَ اليَقينِ على اليَقينِ يَنقُضُه، فتَخرُجُ المَسألةُ مِن نِطاقِ القاعِدةِ
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ ‌إِلَّا ‌ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس: 36] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
بَيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ أنَّ الشَّكَّ لا يُغني مِنَ اليَقينِ شَيئًا، ولا يَقومُ مَقامَه، ولا يُنتَفعُ به في شَيءٍ يَحتاجُ إلى اليَقينِ [203] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (12/181)، ((تفسير السمعاني)) (2/383)، ((التفسير المحرر – سورة يونس)) إعداد الدرر السنية (9/173). .
- ومِنَ الأدِلَّةِ عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ ‌أَوْدِيَةٌ ‌بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد: 17] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا مَثَلٌ ضَربَه اللهُ تعالى لليَقينِ والشَّكِّ -على أحَدِ الأقوالِ في مَعنى الآيةِ [204] يُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/ 491). -، فأمَّا الشَّكُّ فلا يَنفعُ مَعَه العَمَلُ، وأمَّا اليَقينُ فيَنفعُ اللَّهُ به أهلَه، فكَما يُجعَلُ الحُليُّ في النَّارِ، فيُؤخَذُ خالِصُه، ويُترَكُ خَبَثُه في النَّارِ، فكذلك يَقبَلُ اللهُ اليَقينَ، ويَترُكُ الشَّكَّ [205] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (13/498)، ((فتح القدير)) للشوكاني (3/93). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه شَكا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الرَّجُلَ الذي يُخَيَّلُ إليه أنَّه يَجِدُ الشَّيءَ في الصَّلاةِ، فقال: ((لا يَنفَتِلُ -أو لا يَنصَرِفُ- حتَّى يَسمَعَ صَوتًا أو يَجِدَ ريحًا)) [206] أخرجه البخاري (137) واللفظ له، ومسلم (361). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ ظاهِرٌ في اعتِبارِ اليَقينِ والإعراضِ عنِ الشَّكِّ؛ حَيثُ قَضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باستِدامةِ الحُكمِ، وهو استِصحابُ حالِ اليَقينِ [207] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/36)، ((المنثور)) للزركشي (2/288). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (لمَّا كان الأصلُ بَقاءَ الصَّلاةِ في ذِمَّتِه أمرَ الشَّاكَّ أن يَبنيَ على اليَقينِ، ويَطرَحَ الشَّكَّ) [208] ((إعلام الموقعين)) (2/160). .
- وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا شَكَّ أحَدُكُم في صَلاتِه، فلم يَدرِ كَم صَلَّى ثَلاثًا أم أربَعًا، فليَطرَحِ الشَّكَّ وليَبنِ على ما استَيقَنَ...)) [209] أخرجه البخاري (571). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَر مَن شَكَّ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ بالبناءِ على اليَقينِ بأن يَأخُذَ بالأقَلِّ [210] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/116)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/447). .
قال السَّرَخسيُّ: (التَّمَسُّكُ باليَقينِ وتَركُ المَشكوكِ فيه أصلٌ في الشَّرعِ؛ فإنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ أمَر الشَّاكَّ في الحَدَثِ بأن لا يَنصَرِفَ مِن صَلاتِه حتَّى يَستَيقِنَ بالحَدَثِ؛ لأنَّه على يَقينٍ مِنَ الطَّهارةِ، وهو في شَكٍّ مِنَ الحَدَثِ، وكذلك أمَرَ الشَّاكَّ في الصَّلاةِ بأن يَأخُذَ بالأقَلِّ؛ لكَونِه مُتَيَقَّنًا بهـ) [211] ((أصول السرخسي)) (2/116). .
3- مِنَ الإجماعِ:
حَكى الإجماعَ على إعمالِ القاعِدةِ عَدَدٌ مِنَ الفُقَهاءِ والأُصوليِّينَ، مِنهم: إمامُ الحَرَمَينِ [212] قال عنها: (أصلٌ ثابتٌ في الشَّريعةِ مَدلولٌ عليه بالإجماعِ) ((البرهان)) (2/173). ، وابنُ عبدِ البَرِّ [213] قال: (أجمَعَ العُلماءُ أنَّ مَن أيقَنَ بالحَدَثِ وشَكَّ في الوُضوءِ أنَّ شَكَّه لا يُفيدُ فائِدةً، وأنَّ عليه الوُضوءَ فرضًا، وهذا يَدُلُّك على أنَّ الشَّكَّ عِندَهم مُلغًى، وأنَّ العَمَلَ على اليَقينِ عِندَهم. وهذا أصلٌ كَبيرٌ في الفِقهِ، فتَدَبَّرْه، وقِفْ عليهـ). ((التمهيد)) (3/ 449). ، والسَّمعانيُّ [214] قال: (لا خِلافَ أنَّه إذا تَيَقَّنَ الحَدَثَ وشَكَّ في الطَّهارةِ، أو تَيَقَّن الطَّهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ، فإنَّه يَأخُذُ باليَقينِ ويَطرَحُ الشَّكَّ، فكذلك إذا عَرَضَ الشَّكُّ لوُقوعِ الاختِلافِ في الحادِثةِ لم يَجُزْ أن يَرفَعَ ما تَقدَّمَ مِنَ اليَقينِ فيها). ((قواطع الأدلة)) (2/36). ، والقَرافيُّ [215] قال: (كُلُّ مَشكوكٍ فيه مُلغًى إجماعًا). ((الذخيرة)) (9/ 267). ، وابنُ القَيِّمِ [216] قال: (لم يَتَنازَعِ الفُقَهاءُ في هذا النَّوعِ، وإنَّما تَنازَعوا في بَعضِ أحكامِه؛ لتَجاذُبِ المَسألةِ أصلينِ مُتَعارِضَينِ). ((إعلام الموقعين)) (2/160). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ.
قال الزَّركَشيُّ: (يُمكِنُ رُجوعُ غالِبِ مَسائِلِ الفِقهِ إلى هذه القاعِدةِ، إمَّا بنَفسِها، أو بدَليلِها) [217] ((تشنيف المسامع)) (3/463). .
وقال السُّيوطيُّ: (هذه القاعِدةُ تَدخُلُ في جَميعِ أبوابِ الفِقهِ، والمَسائِلُ المُخرَّجةُ عليها تَبلُغُ ثَلاثةَ أرباعِ الفِقهِ وأكثَرَ) [218] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 51). .
وفيما يَلي بَعضُ الأمثِلةِ عليها:
1- إذا نَوى الرَّجُلُ ليلةَ الشَّكِّ أن يَصومَ غَدًا على أنَّه إن كان مِن رَمَضانَ كان صيامُه فرضًا، وإن كان مِن شَعبانَ كان صيامُه نَفلًا، فاستَبانَ أنَّه مِن رَمَضان؛ لم يَكُنْ صائِمًا، وعليه قَضاءُ ذلك اليَومِ.
ولو صامَ يَومَ الثَّلاثينَ مِن رَمَضانَ بمِثلِ هذه النِّيَّةِ أجزأه الصَّومُ.
والفَرقُ بَينَهما: أنَّ ليلةَ الثَّلاثينَ مِن رَمَضانَ إذا نَوى استَنَدَت نيَّتُه إلى أصلٍ مُتَيَقَّنٍ، وهو أنَّه في رَمَضانَ، وإنَّما الشَّكُّ في خُروجِ الشَّهرِ؛ فوجَبَ البناءُ عَلى اليَقين، وأمَّا اللَّيلةُ الأولى مِن رَمَضانَ، فنِيَّتُه فيها لم تُصادِفْ أصلًا يَستَنِدُ إليه؛ لأنَّ الأصلَ أنَّهم في شَعبانَ، وأنَّ الصَّومَ لم يَجِبْ. واليَقينُ لا يُترَكُ بالشَّكِّ [219] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (2/173). .
2- مِنَ الأمثِلةِ المُعاصِرةِ للقاعِدةِ: مَوتُ جِذعِ المـخِّ، هَل يُعتَبَرُ مَوتًا حَقيقيًّا؟
وجِذعُ المُخِّ هو أهَمُّ أجزاءِ المُخِّ، وفيه المَراكِزُ الأساسيَّةُ للحَياةِ، مِثلُ مَراكِزِ التَّنَفُّسِ، والتَّحَكُّمِ في القَلبِ والدَّورةِ الدَّمَويَّةِ [220] يُنظر: ((الفقه الميسر)) لعبدالله الطيار وآخرين (12/18). .
والغالبُ أنَّ مَوتَ جِذعِ المُخِّ هو الذي يَكونُ عَلامةً على الوفاةِ عِندَ أكثَرِ الأطِبَّاءِ. ولمَوتِ جِذعِ المُخِّ عَلاماتٌ؛ مِنها: الإغماءُ الكامِلُ، وعَدَمُ الحَرَكةِ، وعَدَمُ التَّنَفُّسِ وانقِطاعُه؛ ولهذا يَحتاجُ إلى أجهزةِ الإنعاشِ. وأهَمُّها مَعَ عَدَمِ التَّنَفُّسِ عَدَمُ وُجودِ أيِّ نَشاطٍ كَهرَبائيٍّ في رَسمِ المُخِّ بطَريقةٍ مَعروفةٍ عِندَ الأطِبَّاءِ [221] يُنظر: ((الفقه الميسر)) لعبدالله الطيار وآخرين (12/19). .
ولمَّا ظَهَرَت هذه العَلاماتُ للوفاةِ -وهيَ مَوتُ جِذعِ المُخِّ- اختَلف الفُقَهاءُ فيها، هَل هيَ دَليلٌ على مَوتِ الإنسانِ، أو أنَّه لم يَمُتْ؟
والرَّاجِحُ: أنَّ مَوتَ جِذعِ المُخِّ لا يَعني المَوتَ، فلا يُعتَبَرُ الإنسانُ مَيِّتًا حتَّى تَتَوقَّفَ مَعَه حَرَكةُ القَلبِ والنَّفَسِ، مَعَ ظُهورِ الأماراتِ الأُخرى الدَّالَّةِ على مَوتِه، وهو قَولُ أكثَرِ الفُقَهاءِ المُعاصِرينَ [222] يُنظر: ((الفقه الميسر)) لعبدالله الطيار وآخرين (12/21). ، وبذلك صَدَرَ قَرارُ هَيئةِ كِبارِ العُلماءِ في السُّعوديَّةِ في دَورَتِه الخامِسةِ والأربَعينَ، كَما صَدَرَ بذلك قَرارُ المَجمَعِ الفِقهيِّ الإسلاميِّ التَّابعِ لرابطةِ العالمِ الإسلاميِّ، ولجنةِ الفتوى بوِزارةِ الأوقافِ الكويتيَّةِ، واختارَه ابنُ بازٍ، وابنُ عُثَيمين، وبَكر أبو زَيدٍ، وجَمعٌ مِن أهلِ العِلمِ [223] يُنظر: ((المعاملات المالية أصالة ومعاصرة)) للدبيان (3/402)، ((الدرر البهية من الفتاوى الكويتية)) (11/406). ، فلا نَحكُمُ بأنَّ هذا الشَّخصَ قد ماتَ، ولا تَتَرَتَّبُ عليه أحكامُ المَوتِ المَعروفةُ مِنَ التَّوارُثِ، والإحدادِ، وانتِقالِ المِلكيَّةِ، وما يَتَعَلَّقُ بالوصايا...إلخ.
واستَدَلُّوا على ذلك بأدِلَّةٍ؛ مِنها:
قاعِدةُ: اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ: فاليَقينُ أنَّ هذا الإنسانَ حَيٌّ، ومَوتُه مَشكوكٌ فيه، وذلك أنَّ حَياةَ المَريضِ مُتَيَقَّنةٌ؛ لأنَّ قَلبَه ما زال يَنبضُ، والشَّكُّ إنَّما هو في مَوتِه باعتِبارِ أنَّ دِماغَه مَيِّتٌ، فوجَبَ علينا اعتِبارُ اليَقينِ الموجِبِ للحُكمِ بحَياتِه، فقد كان بالأمسِ صاحِبَ حَياةٍ مُستَمِرَّةٍ أو مُستَقِرَّةٍ، فيبقى ما كان على ما كان حتَّى يَثبُتَ باليَقينِ مَوتُه، وهو مُمتَنِعٌ مَعَ خَفَقانِ قَلبِه، فإذا شُكَّ في مَوتِ إنسانٍ لم يَكُنْ لأحَدٍ أن يُبادِرَ بإنهائِها باجتِهادِه؛ فالإقدامُ على نَزعِ الأعضاءِ مِن إنسانٍ لا زال به رَمَقٌ، أو شكَّ في وفاتِه: نَوعٌ مِنَ القَتلِ المُتَعَمَّدِ، قد وُجِدَت وقائِعُ يُقَرَّرُ فيها مَوتُ الدِّماغِ، ثُمَّ بَعدَ ذلك تَستَمِرُّ الحَياةُ. ويَتَرَتَّبُ على هذا التَّرجيحِ: أنَّه لا تَعتَدُّ زَوجَتُه مِنه، ولا يورَثُ مالُه، ولا تَبطُلُ وكالتُه، ولا يُبدَأُ في تَنفيذِ وصاياه [224] يُنظر: ((فقه النوازل)) لبكر أبو زيد (1/232)، ((أحكام الجراحة الطبية)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 347)، ((المعاملات المالية أصالة ومعاصرة)) للدبيان (3/403)، ((الفقه الميسر)) لعبدالله الطيار وآخرين (12/22)، ((أثر تطور المعارف الطبية على تغير الفتوى والقضاء)) لحاتم الحاج (ص: 279). .
وقيل: إذا أثبَتَ الأطِبَّاءُ أنَّ جِذعَ المُخِّ قد ماتَ بالعَلاماتِ التي تقدَّم ذِكرُها فإنَّه يُحكَمُ على هذا الشَّخصِ بأنَّه ماتَ. وبهذا قال بَعضُ المُعاصِرينَ [225] يُنظر: ((أثر تطور المعارف الطبية على تغير الفتوى والقضاء)) لحاتم الحاج (ص: 266)، ((المعاملات المالية أصالة ومعاصرة)) للدبيان (3/399). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
استَثنى الفُقَهاءُ مِن هذه القاعِدةِ بَعضَ المَسائِلِ، وهذا ليسَ قَضاءً بالمَرجوحِ مَعَ وُجودِ الرَّاجِحِ، بَل هو عَمَلٌ بأرجَح الظنَّينِ [226] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (1/276). .
ومِن هذه المَسائِلِ المُستَثناةِ [227] يُنظر: ((التلخيص في الفقهـ)) لابن القاص (ص: 120- 124)، ((المجموع)) للنووي (1/ 211 213)، ((الأشباه والنظائر)) (1/29)، ((رفع الحاجب)) (4/502) كلاهما لابن السبكي، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2135). :
1- إذا شَكَّ ماسِحُ الخُفِّ هَل انقَضَتِ المُدَّةُ، لم يَجُزْ له المَسحُ، ويُحكَمُ بانقِضاءِ المُدَّةِ وإن كان الأصلُ بَقاءَها.
2- إذا شَكَّ المُسافِرُ هَل مَسَحَ وهو مُقيمٌ أو بَعدَ السَّفرِ، يَأخُذُ بأنَّه مَسَحَ في الحَضَرِ، ويُحكَمُ بانقِضاءِ المُدَّةِ وإن كان الأصلُ بَقاءَها.
3- إذا أحرَمَ المُسافِرُ بنيَّةِ القَصرِ خَلفَ مَن لا يَدري أمُسافِرٌ هو أو مُقيمٌ، لم يَجُزِ القَصرُ -على قَولٍ-.
4- المُستَحاضةُ المُتَحَيِّرةُ يَلزَمُها الغُسلُ عِند كُلِّ صَلاةٍ تَشُكُّ في انقِطاعِ الدَّمِ قَبلَها.
5- مَن أصابَته نَجاسةٌ في بَدَنِه أو ثَوبِه، وجَهِلَ مَوضِعَها، يَلزَمُه غَسلُه كُلِّه.
أقسامُ الشَّكِّ:
ذَكَرَ بَعضُ الفُقَهاءِ أنَّ الشَّكَّ على ثَلاثةِ أقسامٍ [228] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/287)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/133)، ((القواعد)) للحصني (1/306). :
1- شَكٌّ طَرَأ على أصلٍ حَرامٍ، كَشاةٍ مَذبوحةٍ في بَلدٍ فيه مُسلمونَ ومَجوسٌ، ولا يَغلِبُ أحَدُهما الآخَرَ: فإنَّها لا تَحِلُّ للأكلِ حتَّى يُعلمَ أنَّها ذَكاةُ مُسلمٍ؛ لأنَّ أصلَها حَرامٌ، وشَكَكنا في الذَّكاةِ المُبيحةِ، فلو كان الغالِبُ في البَلدةِ المُسلِمونَ جازَ الأكلُ؛ عَمَلًا بالغالِبِ المُفيدِ للظُّهورِ.
2- شَكٌّ طَرَأ على أصلٍ مُباحٍ، كَما لو وجَدَ ماءً مُتَغَيِّرًا، واحتَمَل أن يَكونَ تَغَيُّرُه بنَجاسةٍ أو بطاهرٍ، كَطولِ المُكثِ: فإنَّه يَحِلُّ استِعمالُه مَعَ الشَّكِّ، ويَجوزُ التَّطهيرُ به؛ عَمَلًا بأصلِ الطَّهارةِ. وكذلك الشَّكُّ في الطَّلاقِ والعتاقِ ونَحوِهما.
3- شَكٌّ لا يُعرَفُ أصلُه، كَمُعامَلةِ مَن أكثَرُ مالِه حَرامٌ، فلا يَحرُمُ؛ لإمكانِ الحَلالِ، ولكِن يُكرَهُ؛ لخَوفِ الوُقوعِ في الحَرامِ، وهذا إذا لم يَتَحَقَّقْ أنَّ المَأخوذَ مِن مالِه عَينُ الحَرامِ.
فائِدةٌ: إذا طَرَأ الشَّكُّ وأمكَنَ الاجتِهادُ:
إذا طَرَأ الشَّكُّ وأمكَنَ الاجتِهادُ لم يَخلُ المَشكوكُ فيه مِن ثَلاثةِ أحوالٍ [229] يُنظر: ((نهاية المطلب)) (14/243)، ((البرهان)) (2/172) كلاهما للجويني، ((المنثور)) للزركشي (2/286). :
1- أن يَرتَبِطَ بعَلامةٍ بَيِّنةٍ في مَحَلِّ الظُّنونِ، فما كان كذلك فالاجتِهادُ فيه هو المُتَّبَعُ، ولا التِفاتَ إلى ما تَقَدَّم؛ فإنَّه يَتَصَدَّى للمَرءِ شَكٌّ في بَقاءِ ما سَبَقَ، واجتِهادُه ظاهِرٌ في زَوالِه، والاجتِهادُ مُقدَّمٌ، وذلك كاختِلافِ العُلماءِ في وُقوعِ الطَّلاقِ على مَن شَكَّ أنَّه طَلَّقَ امرَأتَه، فالمُتَّبَعُ الاجتِهادُ، ولا حُكمَ للنِّكاحِ السَّابقِ، وما تقدَّم مِنِ استيقانِ انعِقادِه.
2- أن يَثبُتَ بعَلامةٍ خَفيَّةٍ، فإن دَعَتِ الضَّرورةُ إلى الاجتِهادِ وجَبَ التَّمَسُّكُ به، وذلك كالعَلاماتِ التي يَقَعُ التَّمَسُّكُ بها في تَمييزِ النَّجِسِ مِنَ الطَّاهرِ في الأواني والثِّيابِ، فإن عارَضَ يَقينُ النَّجاسةِ يَقينَ الطَّهارةِ فعَلِم صاحِبُ الإناءَينِ أنَّ أحَدَهما نَجِسٌ، والآخَرَ طاهِرٌ: فليسَ التَّمَسُّكُ بيَقينِ الطَّهارةِ بأَولى مِنَ التَّمَسُّكِ بيَقينِ النَّجاسةِ، فيُضطَرُّ إلى التَّمَسُّكِ بالعَلاماتِ وإن خَفيَت، أي أنَّه إذا كان مَعَ الرَّجُلِ إناءانِ أحَدُهما طاهِرٌ، والآخَرُ نَجِسٌ، تَعارَضَ اليقينانِ؛ فإمَّا أن يَترُكَ الإناءَينِ، أو يَجتَهِدَ في الأخذِ بأحَدِهما، ولا سَبيلَ إلى التَّركِ، فتَعَيَّنَ الاجتِهادُ؛ إذ ليسَ أحَدُ الأصلينِ بأَولى مِنَ الآخَرِ.
وإن لم يوجَدْ يَقينُ النَّجاسةِ ولكِنَّا تَيَقَّنَّا طَهارةً وشَكَكنا في طريانِ نَجاسةٍ، وثَبَتَت عَلامةٌ خَفيَّةٌ، كَما إذا كان عِندَه إناءٌ واحِدٌ فيه ماءٌ، فشَكَّ في طريانِ النَّجاسةِ عليه، وغَلبَت عِندَه عَلاماتُها، فهَل يَأخُذُ بالاجتِهادِ، وعَلاماتُ النَّجاسةِ خَفيَّةٌ، أم يَستَصحِبُ اليَقينَ السَّابِقَ؛ لضَعفِ العَلامةِ؟ فيه قَولانِ: فالتَّعَلُّقُ بالاستِصحابِ أَولى على قَولٍ، والتَّمَسُّكُ بها أَولى على قَولٍ.
3- إن تَقدَّمَ يَقينٌ وطَرَأ شَكٌّ، وليسَ لِما فيه الشَّكُّ عَلامةٌ جَليَّةٌ ولا خَفيَّةٌ، فعِندَ ذلك يُستَصحَبُ اليَقينُ.

انظر أيضا: