المَبحَثُ الأوَّلُ: قاعِدةُ الأُمورُ بمَقاصِدِها
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأُمورُ بمَقاصِدِها"، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ "الأعمال بالنِّيَّاتِ"
[1] قال ابنُ السُّبكيِّ: (القاعِدةُ الخامِسةُ: الأُمورُ بمَقاصِدِها، وأرشَقُ وأحسَنُ مِن هذه العِبارةِ: قَولُ مَن أوتيَ جَوامِعَ الكَلمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"). ((الأشباه والنظائر)) (1/54). ، وبصيغةِ: "لا عملَ إلَّا بنيَّةٍ"
[2] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/ 427) و(4/21). ، وصيغةِ: "لا قولَ ولا عملَ إلَّا بنيَّةٍ"
[3] يُنظر: ((شرح مذاهب أهل السنة)) لابن شاهين (ص:319)، ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (1/ 84). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالأُمورُ: جَمعُ أمرٍ، بمَعنى الشَّأنِ، أمَّا الأمرُ بمَعنى الطَّلَبِ فجَمعُه أوامِرُ، وليسَ مُرادًا هنا. والمَقاصِدُ: جَمعُ مَقصَدٍ بمَعنى النِّيَّةِ والعَزمِ، تَقولُ: قَصَدتُ كَذا: إذا عَزَمتَ عليه ونَوَيتَ
[4] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 88)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/ 196)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/ 1/ 120). .
والمَقصودُ بهذه القاعِدةِ بَيانُ أنَّ التَّصَرُّفاتِ القَوليَّةَ والفِعليَّةَ تَنبَني -مِن حَيثُ آثارُها المُتَرَتِّبةُ عليها- على المَقصودِ مِن ذلك العَمَلِ ونيَّةِ العامِلِ، أي أنَّ الاعتِبارَ بحَسَبِ النِّيَّةِ، فالنِّيَّةُ هيَ التي تُمَيِّزُ بَينَ ما هو عادةٌ وما هو عِبادةٌ، وتُمَيِّزُ بَينَ الواجِبِ والمَندوبِ، والمُباحِ والمَكروهِ والمُحَرَّمِ، والصَّحيحِ والفاسِدِ، وقد يَكونُ العَمَلُ واحِدًا مِن حَيثُ الصُّورةُ، مُختَلفًا بحَسَبِ النِّيَّةِ، فقد يُقصَدُ به أمرٌ، فيَكونُ عِبادةً، ويُقصَدُ به شَيءٌ آخَرُ، فلا يَكونُ كذلك
[5] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/8، 9)، ((القواعد)) للحصني (1/208)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/198). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (قاعِدةُ الشَّريعةِ التي لا يَجوزُ هَدمُها: أنَّ المَقاصِدَ والاعتِقاداتِ مُعتَبرةٌ في التَّصَرُّفاتِ والعِباراتِ كَما هيَ مُعتَبَرةٌ في التَّقَرُّباتِ والعِباداتِ، فالقَصدُ والنِّيَّةُ والاعتِقادُ يَجعَلُ الشَّيءَ حَلالًا أو حَرامًا، وصحيحًا أو فاسِدًا، وطاعةً أو مَعصيةً، كَما أنَّ القَصدَ في العِبادةِ يَجعَلُها واجِبةً أو مُستَحَبَّةً أو مُحَرَّمةً، أو صحيحةً أو فاسِدةً)
[6] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (3/577). .
ونَصُّ هذه القاعِدةِ: على تَقديرِ مُقتَضًى، أي: أحكامُ الأُمورِ بمَقاصِدِها؛ لأنَّ عِلمَ الفِقهِ إنَّما يَبحَثُ عن أحكامِ الأشياءِ لا عن ذَواتِها
[7] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/208)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 47). ، يَعني: أنَّ الحُكمَ الذي يَتَرَتَّبُ على أمرٍ يَكونُ على مُقتَضى ما هو المَقصودُ مِن ذلك الأمرِ
[8] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/19). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِدَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ القُرآنِ: قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100] .
وَجهُ الدَّلالةِ: هذه الآيةُ تُبَيِّنُ أنَّ المُؤمِنَ إذا قَصَدَ طاعةً ثُمَّ أعجَزَه العُذرُ عن إتمامِها، كَتَبَ اللهُ تعالى له ثَوابَ تَمامِ تلك الطَّاعةِ
[9] يُنظر: ((تفسير الوسيط)) للواحدي (2/107)، ((لباب التأويل)) للخازن (1/417). .
2- مِنَ السُّنَّةِ: - حَديثُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ تعالى عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى )) [10] لفظُه: عن عَلقَمةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيثيِّ يَقولُ: سَمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه على المِنبَرِ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى ، فمَن كانت هجرَتُه إلى دُنيا يُصيبُها، أو إلى امرَأةٍ يَنكِحُها، فهجرَتُه إلى ما هاجَرَ إليهـ)). أخرجه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1917). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الحَديثَ بَيَّن في الجُملةِ الأولى: أنَّ العَمَلَ لا يَقَعُ إلَّا بالنِّيَّةِ؛ ولهذا لا يَكونُ عَمَلٌ إلَّا بنيَّةٍ، ثُمَّ بَيَّن في الجُملةِ الثَّانيةِ: أنَّ العامِلَ ليسَ له مِن عَمَلِه إلَّا ما نَواه، وهذا يَعُمُّ العِباداتِ والمُعامَلاتِ والأيمانَ والنُّذورَ وسائِرَ العُقودِ والأفعالِ
[11] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/600). .
- وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّك لن تُنفِقَ نَفَقةً تَبتَغي بها وَجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ عليها حتَّى ما تُجعَلُ في فِيِّ امرَأتِك )) [12] أخرجه البخاري (56) واللفظ له، ومسلم (1628). .
وَجهُ الدَّلالةِ:الحَديثُ دَلَّ على أنَّ العَمَلَ، وهو النَّفقةُ هنا، لن يُؤجَرَ عليه المُنفِقُ إلَّا إذا نَوى به امتِثالَ أمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وإرادةَ وَجهِ اللهِ بذلك
[13] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/120)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/275). .
3- دَلالة الإجماعِوقد ذَكَرَ القَرافيُّ أنَّ هذه القاعِدةَ أصلٌ مُتَّفَقٌ عليه في الجُملةِ
[14] قال: (... ما ثَبَتَ مِن أنَّ الأعمالَ بالنِّيَّاتِ، وهو أصلٌ مُتَّفَقٌ عليه في الجُملةِ، والأدِلَّةُ عليه لا تَقصُرُ عن مَبلغِ القَطعِ). ((الفروق)) (2/77). وقال ابنُ الشَّاط في حاشيَتِه على أنواءِ الفُروقِ: (القَواعِدُ الشَّرعيَّةُ تَقتَضي أنَّه لا تَتَرَتَّبُ الأحكامُ الشَّرعيَّةُ في العِباداتِ والمُعامَلاتِ إلَّا على النِّيَّاتِ والقُصودِ، وما ليسَ بمَنويٍّ ولا مَقصودٍ فهو غَيرُ مُعتَدٍّ به ولا مُؤاخَذٍ بسَبَبِه، وهذا أمرٌ لا يَكادُ يَجهَلُه أحَدٌ مِنَ الشَّرعِ). ((الفروق)) (1/ 180). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِمِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إحدادُ المَرأةِ على مَيِّتٍ غَيرِ زَوجِها فوقَ ثَلاثٍ دائِرٌ مَعَ قَصدِها ونيَّتِها، فإن قَصَدَت تَركَ الزِّينةِ والتَّطَيُّبِ لأجلِ المَيِّتِ حَرُمَ عليها، وإن تَرَكَته لعَدَمِ رَغبتِها في الزِّينةِ لم يَحرُمْ عليها
[15] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 11)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 23)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/ 98)، ((التحفة المكية)) لمحمد الشاوي (ص: 38). ويُنظر لمزيد أمثلة على هذه القاعدة: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/55)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 9- 11)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 23- 25)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/ 97- 103). .
2- مَن صامَ ليُريحَ مَعِدَتَه أو بقَصدِ العِلاجِ فلا يُعَدُّ صَومُه عِبادةً، وكذلك لو قَصَدَ بالصَّلاةِ رياضةَ أعضائِه
[16] يُنظر: ((القبس)) لابن العربي (ص: 277). .
3- الهَجرُ فوقَ ثَلاثةِ أيَّامٍ دائِرٌ مَعَ القَصدِ، فإن قَصدَ هَجرَ المُسلمِ مِن غَيرِ موجِبٍ شَرعيٍّ للهَجرِ حَرُمَ ذلك، وإن كان الهَجرُ لموجِبٍ شَرعيٍّ فلا يَحرُمُ
[17] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 23)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/ 97). .
4- الكافِرُ إذا تَتَرَّسَ بمُسلمٍ فإن رَماه مُسلِمٌ آخَرُ فقَصَدَ قَتلَ المُسلمِ المُتَتَرَّسِ به، حَرُمَ، وإن قَصَدَ قَتلَ الكافِرِ فلا
[18] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 24)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/ 102). .
5- إن أخَذَ أحَدٌ اللُّقَطةَ بنيَّةِ رَدِّها لصاحِبِها حَلَّ رَفعُها، وإن أخَذَها بنيَّةِ الاستيلاءِ عليها لنَفسِه كان غاصِبًا
[19] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 24). .