المَطلَبُ الأوَّلُ: بدايةُ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ
ظَهَرَتِ القَواعِدُ الفِقهيَّةُ في مَبدَئِها قَبلَ تَدوينِ الفِقهِ، ويُطلَقُ عليها أيضًا مَرحَلةُ النُّشوءِ والتَّكوينِ، وهيَ (الفَترةُ المُمتَدَّةُ مِن عَصرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرورًا بالصَّحابةِ والتَّابِعينَ وكِبارِ الفُقَهاءِ وأصحابِ المَذاهِبِ حَتَّى القَرنِ الثَّالِثِ الهِجريِّ)
[512] يُنظر: ((تطور القواعد الفقهية)) للمرعشلي (ص: 227). ، وهذه المَرحَلةُ يُمكِنُ تَقسيمُها إلى عِدَّةِ مَراحِلَ تَفصيليَّةٍ، وهي
[513] سبق الحديث عن ذلك في ((مصادر القواعد الفقهية)). :
الأولى: نُصوصُ القُرآنِ وأحاديثُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي هيَ جَوامِعُ الكَلِمِ التي تَجري مَجرى القَواعِدِ المُشتَمِلةِ على أبوابٍ
وفُروعٍ شَتَّى مِنَ الفِقهِ:يُعدُّ عَصرُ الرِّسالةِ أو عَصرُ التَّشريعِ هو طَورَ النُّشوءِ والتَّكوينِ الذي وُضِعَت فيه البَذرةُ الأولى للقَواعِدِ الفِقهيَّةِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (وإذا كانَ أربابُ المَذاهِبِ يَضبِطونَ مَذاهِبَهُم، ويَحصُرونَها بجَوامِعَ تُحيطُ بما يَحِلُّ ويَحرُمُ عِندَهُم، مَعَ قُصورِ بَيانِهِم؛ فاللهُ ورَسولُه المَبعوثُ بجَوامِعِ الكَلِمِ أقدَرُ على ذلك، فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأتي بالكَلِمةِ الجامِعةِ، وهيَ قاعِدةٌ عامَّةٌ وقَضيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تَجمَعُ أنواعًا وأفرادًا، وتَدُلُّ دَلالَتَينِ: دَلالةَ طَردٍ، ودَلالةَ عَكسٍ)
[514] ((إعلام الموقعين)) (2/ 148). .
ومِن أمثِلةِ ذلك مِن نُصوصِ القُرآنِ الكَريمِ:1- قاعِدةُ:
ما على المُحسِنينَ مِن سَبيلٍ [515] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص:1072)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/ 575)، ((القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير للحصيري)) لعلي الندوي (ص: 127). ، وقد عَلَّلَ الفُقَهاءُ أحكامَ بَعضِ المَسائِلِ بهذه القاعِدةِ الجَليلةِ
[516] يُنظر: ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 218). .
2- قاعِدةُ:
وتَعاوَنوا على البِرِّ والتَّقوى ولا تَعاوَنوا على الإثمِ والعُدوانِ فهذه الآيةُ الكَريمةُ تَحتَوي على قاعِدَتَينِ مُهِمَّتَينِ، تَتَعَلَّقُ أولاهُما بجَلبِ المَنافِعِ، والثَّانيةُ بدَرءِ المَفاسِدِ، وهيَ دَليلٌ لأحكامٍ كَثيرةٍ
[517] يُنظر: ((القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير للحصيري)) لعلي الندوي (ص: 127). .
ومِن أمثِلةِ ذلك مِنَ الأحاديثِ النَّبَويَّةِ:1- قاعِدةُ: "البَيِّنةُ على المُدَّعي، واليَمينُ على مَن أنكَرَ
"
[518] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (19/ 89)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/ 505). : وأصلُ هذه القاعِدةِ حَديثُ:
((البَيِّنةُ على المُدَّعي، واليَمينُ على مَن أنكَرَ )) [519] أخرجه ابنُ أبي عاصم في ((الديات)) (ص40)، والبيهقي (21243 واللَّفظُ له مِن حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما. حَسَّنَه النَّوويُّ في ((الأربعون النووية)) (33)، وحَسَّنَه بطُرُقِه وشَواهِدِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (5/330)، وقال محمد ابن عبد الهادي في ((حاشية الإلمام)) (648): إسنادُه حَسَنٌ صَحيحٌ، وذكر ثبوتَه الشوكاني في ((السيل الجرار)) (2/411) وذهب إلى تصحيحِه ابنُ الملقن في ((البدر المنير)) (9/450)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (2685)، وصحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((بلوغ المرام)) (421)، والشوكاني في ((الدراري المضية)) (377)، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/226): أصلُه في الصَّحيحَينِ. وأصلُه في صحيح البخاري (4552)، ومسلم (1711) دونَ قَولِه: "واليَمينُ على مَن أنكَرَ"، ولَفظُ مُسلِمٍ: عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو يُعطى النَّاسُ بدَعواهُم لادَّعى ناسٌ دِماءَ رِجالٍ وأموالَهُم، ولَكِنَّ اليَمينَ على المُدَّعى عليهـ)). .
قال النَّوويُّ: (هذا الحَديثُ قاعِدةٌ كَبيرةٌ مِن قَواعِدِ أحكامِ الشَّرعِ)
[520] ((شرح مسلم)) (12/ 3). .
2- قاعِدةُ: "المُسلِمونَ عِندَ شُروطِهِم"
[521] يُنظر: ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 121). : وأصلُها حَديثُ:
((المُسلِمونَ عِندَ شُروطِهِم)) [522] أخرَجَه البُخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ قبل حديث (2274) واللَّفظُ له دونَ ذِكرِ راويه، وأخرجه موصولًا أبو داود (3594) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه. حسَّنه المناوي في ((كشف المناهج)) (2/520)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (2890)، وقال النووي في ((المجموع)) (9/376): إسنادُه حَسَنٌ أو صَحيحٌ، وحَسَّنَ إسنادَه ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/54)، وابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/69)، وذكَر ثبوتَه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/322). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ القيِّم في ((الفروسية)) (164)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6714). وأخرجه البخاريُّ معلَّقًا بصيغة الجزمِ قبل حديث (2274) واللفظُ له دون ذِكرِ راويه، وأخرجه موصولًا الترمذي (1352) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ عَمرِو بنِ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه. ذكر ثبوتَه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/322). وذهب إلى تصحيحه ابن حبان كما في ((بلوغ المرام)) (257)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1352)، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ، وقوَّاه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (8/209). .
الثَّانيةُ: آثارُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهُم التي تَجري مَجرى القَواعِدِ:فنَجِدُ للصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهُم نُصوصًا مَنقولةً تُعَدُّ نَموذَجًا للقَواعِدِ الفِقهيَّةِ والضَّوابِطِ العامَّةِ والأحكامِ الجامِعةِ في تلك المَرحَلةِ، ومِن ذلك:
قَولُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه: "إنَّما مَقاطِعُ الحُقوقِ عِندَ الشُّروطِ"
[523] يُنظر: ((سنن سعيد بن منصور)) (1/ 211)، ((مصنف ابن أبي شيبة)) (12/ 238)، ((صحيح البخاري)) (3/ 559). . ويُعتَبَرُ هذا القَولُ قاعِدةً فِقهيَّةً في بابِ الشُّروطِ
[524] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص:486)، مقدمة تحقيق ((الأشباه والنظائر لابن الملقن)) لمصطفى الأزهري (1/ 43)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/ 809). .
الثَّالِثةُ: أقوالُ التَّابِعينَ التي تَجري مَجرى القَواعِدِ:فمِن نُصوصِ التَّابِعينَ التي تَجري مَجرى القَواعِدِ قَبلَ أن تَتَكَوَّنَ المَذاهِبُ الفِقهيَّةُ المَشهورةُ:
قَولُ شُرَيحٍ القاضي: "مَن شَرَطَ على نَفسِه طائِعًا غَيرَ مُكرَهٍ فهو عليه"
[525] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (3/198). .
الرَّابِعةُ: نُصوصُ وقَواعِدُ أئِمَّةِ المَذاهِبِ المَتبوعةِ أو أصحابِهِم:ومِن ذلك: قَولُ مالِكِ بنِ أنَسٍ: (شَرطُ الضَّمانِ في القِراضِ باطِلٌ)
[526] ((موطأ مالك)) (4/ 1000). .
وقَولُ الشَّافِعيِّ: (الرُّخَصُ لا يُتَعَدَّى بها مَواضِعُها)
[527] ((الأم)) (1/ 99). .
فهذه النُّصوصُ وغَيرُها تُعتَبَرُ أدِلَّةً واضِحةً وبارِزةً على وُجودِ القَواعِدِ في عَصرِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهُم والتَّابِعينَ وأئِمَّةِ الفِقه المَتبوعينَ، وهيَ تَحمِلُ صِفاتِ القَواعِدِ والضَّوابِطِ الفِقهيَّةِ، وتَنطَبِقُ على كَثيرٍ مِنَ المَسائِلِ والفُروعِ، وبِهذا كانَتِ اللَّبِنةُ الأولى والتَّأسيسيَّةُ لتَشييدِ عِلمِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ لاحِقًا، ليَأتيَ بَعدَ ذلك طَورُ التَّدوينِ لعِلمِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ.