الفَرعُ الأوَّلُ: طَورُ التَّدوينِ
كانَت مَرحَلةُ البِداياتِ الأولى لعِلمِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ التي أُشيرَ فيها إلى ظُهورِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ قَبلَ تَدوينِها، وكانَت مَبثوثةً في نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وأقوالِ وأقضيةِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأئِمَّةِ الفِقه المَتبوعينَ، وإن تَطَوَّرَت بَعدَ ذلك وزيدَ فيها.
فتَلا هذه المَرحَلةَ الإرهاصاتُ الأولى لتَدوينِ هذا العِلمِ وضَمِّ النَّظيرِ إلى نَظيرِه، وذلك مَعَ فشوِّ حَرَكةِ التَّأليفِ الفِقهيِّ والتَّقليدِ المَذهَبيِّ، والِاستِدلالِ والرُّجوعِ إلى الأُصولِ والقَواعِدِ الفِقهيَّةِ، وكَما قال ابنُ خَلدونَ: (ولَمَّا صارَ مَذهَبُ كُلِّ إمامٍ عِلمًا مَخصوصًا عِندَ أهلِ مَذهَبِه، ولَم يَكُنْ لهم سَبيلٌ إلى الاجتِهادِ والقياسِ، فاحتاجوا إلى تَنظيرِ المَسائِلِ في الإلحاقِ وتَفريقِها عِندَ الاشتِباهِ بَعدَ الاستِنادِ إلى الأُصولِ المُقَرَّرةِ مِن مَذاهِبِ إمامِهِم. وصارَ ذلك كُلُّه يَحتاجُ إلى مَلَكةٍ راسِخةٍ يُقتَدَرُ بها على ذلك النَّوعِ مِنَ التَّنظيرِ أوِ التَّفرِقةِ واتِّباعِ مَذهَبِ إمامِهِم فيها ما استَطاعوا. وهذه المَلَكةُ هيَ عِلمُ الفِقهِ لهذا العَهدِ)
[528] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 568). .
المَرحَلةُ الأولى للتَّدوينِ:كانَتِ المَرحَلةُ الأولى للتَّدوينِ إيرادَ القَواعِدِ واستِعمالَها ضِمنَ كُتُبِ الفِقهِ، وهذه هيَ المَرحَلةُ التي سَبَقَت إفرادَ القَواعِدِ بالتَّدوينِ، وكَثيرٌ مِنَ القَواعِدِ في هذه المَرحَلةِ يَتَّصِفُ بالطُّولِ في الصِّياغةِ، وعَدَمِ الاتِّفاقِ على صيغةٍ واحِدةٍ لكُلِّ قاعِدةٍ، وهذه القَواعِدُ التي ذَكَرَها الأئِمَّةُ في سياقِ تَعليلاتِهِم وكَلامِهِم أُخِذَت فيما بَعدُ وزيدَ عليها وأصبَحَت قَواعِدَ عامَّةً، وخُرِّجَت عليها فُروعٌ ومَسائِلُ، وجُعِلَت أبوابًا.
وُجوهُ استِعمالِ القَواعِدِ في هذه المَرحَلةِ [529] يُنظر: مقدمة تحقيق ((القواعد للحصني)) للشعلان والبصيلي (1/ 43- 45). :1- التَّعليلُ بالقاعِدةِ:وذلك كَقَولِ أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ: (ولا يُمكِنُ قَبولُ الشَّهادةِ مَعَ الكَثيرِ مِنَ الصَّغائِرِ؛ لأنَّ مَنِ استَجازَ الإكثارَ مِنَ الصَّغائِرِ استَجازَ أن يَشهَدَ بالزُّورِ، فعَلَّقنا الحُكمَ على الغالِبِ مِن أفعالِه؛ لأنَّ الحُكمَ للغالِبِ، والنَّادِرُ لا حُكمَ لهـ)
[530] ((المهذب)) (3/ 438). .
ومِن ذلك قَولُ الجُوَينيِّ: (ما استَمَرَّ في النَّاسِ العِلمُ بوُجوبِه فإنَّهُم يُقيمونَه، وما ذَهَبَ عَن ذِكرِ أهلِ الدَّهرِ جُملةً فلا تَكليفَ عليهم فيه، وسُقوطُ ما عَسُرَ الوُصولُ إلَيه في الزَّمانِ لا يُسقِطُ المُمكِنَ؛ فإنَّ مِنَ الأُصولِ الشَّائِعةِ التي لا تَكادُ تُنسى ما أُقيمَت أُصولُ الشَّريعةِ: أنَّ "المَقدورَ عليه لا يَسقُطُ بسُقوطِ المَعجوزِ عنه")
[531] ((غياث الأمم)) (ص: 469). .
ومِنه قَولُ الشَّافِعيِّ: (ولَو كانَ رَجُلٌ في الحَربِ، فعَقَرَ رَجُلٌ فرَسَه، رَجَوتُ أن لا يَكونَ له بَأسٌ؛ لأنَّ ذلك ضَرورةٌ، وقد يُباحُ في الضَّروراتِ ما لا يُباحُ في غَيرِ الضَّروراتِ)
[532] ((الأم)) (4/ 149). .
2- الإجابةُ بالقاعِدةِ عَن جُزئيَّةٍ مِنَ الجُزئيَّاتِ الدَّاخِلةِ تَحتَها:وذلك كَقَولِ المُزَنيِّ: (ومَنِ استَيقَنَ الطُّهرَ ثُمَّ شَكَّ في الحَدَثِ، أو استَيقَنَ الحَدَثَ ثُمَّ شَكَّ في الطُّهرِ، فلا يَزولُ اليَقينُ بالشَّكِّ)
[533] ((مختصر المزني)) (1/ 33). .
3- ذِكرُ قاعِدَتَينِ تَتَنازَعانِ فرعًا واحِدًا:ومِن ذلك قَولُ الرَّافِعيِّ: (ولَو قال: تَزَوَّجتُكِ أو نَكَحتُكِ، فوجهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُما صَريحانِ في الرَّجعةِ؛ لأنَّهُما صالِحانِ لابتِداءِ العَقدِ والحِلِّ، فلَأن يَصلُحا للتَّدارُكِ وتَقويمِ المُتَزَلزِلِ أَولى. وأصَحُّهُما -على ما ذَكَرَه في "التَّهذيبِ"- المَنعُ؛ لأنَّهُما غَيرُ مُستَعمَلَينِ في الرَّجعةِ، ولأنَّ ما كانَ صَريحًا في شَيءٍ لا يَكونُ صَريحًا في غَيرِه، كالطَّلاقِ والظِّهارِ)
[534] ((العزيز)) (9/ 173). .
4- الاعتِراضُ بالقاعِدةِ على فرعٍ يُخالِفُها:ومِثالُ ذلك ما نَقَلَه الرَّافِعيُّ: (لو وكَّلَ المَوهوبُ مِنه الغاصِبَ، أوِ المُستَعيرَ، أوِ المُستَأجِرَ بقَبضِ ما في يَدِه مِن نَفسِه، وقَبِلَ، صَحَّ، وإذا مَضَت مُدَّةٌ يَتَأتَّى فيها القَبضُ بَرِئَ الغاصِبُ والمُستَعيرُ مِنَ الضَّمانِ، وهذا يُخالِفُ الأصلَ المَشهورَ في أنَّ الشَّخصَ الواحِدَ لا يَكونُ قابِضًا ومُقبِضًا)
[535] ((العزيز)) (6/ 316). ويُنظر أيضًا: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/ 263). .
المَرحَلةُ الثَّانيةُ للتَّدوينِ: الجَمعُ والتَّصنيفُفي هذه المَرحَلةِ أفرَد العُلَماءُ القَواعِدَ في التَّدوينِ بَعدَ أن كانَت مُنتَشِرةً في كُتُبِ الفِقهِ، كما تقدَّم في المَرحَلةِ الأولى.
- قيل إنَّ أبا طاهِرٍ الدَّبَّاسِ أوَّلُ من صنَّفَ في القواعدِ الفقهيةِ فجَمَعَ (17) قاعِدةً فقهيَّةً، وذلك في القرنِ الرابعِ الهجريِّ، فكانت النواةَ الأولى في قواعدِ المذهبِ الحنفيِّ، فقد حَكى القاضي أبو سَعيدٍ الهَرَويُّ: (أنَّ بَعضَ أئِمَّةِ الحَنَفيَّةِ بهَراةَ بَلَغَه أنَّ الإمامَ أبا طاهِرٍ الدَّبَّاسَ -إمامَ الحَنَفيَّةِ بما وراءَ النَّهرِ- رَدَّ جَميعَ مَذهَبِ أبي حَنيفةَ إلى سَبعَ عَشرةَ قاعِدةً، فسافَرَ إلَيه. وكانَ أبو طاهِرٍ ضَريرًا، وكانَ يُكَرِّرُ كُلَّ ليلةٍ تلك القَواعِدَ بمَسجِدِه بَعدَ أن يَخرُجَ النَّاسُ مِنه، فالتَفَّ الهَرَويُّ بحَصيرٍ، وخَرَجَ النَّاسُ، وأغلَقَ أبو طاهِرٍ المَسجِدَ وسَرَدَ مِن تلك القَواعِدِ سَبعًا، فحَصَلَت للهَرَويِّ سَعلةٌ، فأحَسَّ به أبو طاهِرٍ فضَرَبَه وأخرَجَه مِنَ المَسجِدِ، ثُمَّ لم يُكَرِّرْها فيه بَعدَ ذلك، فرَجَعَ الهَرَويُّ إلى أصحابِه، وتَلا عليهم تلك السَّبعَ. قال القاضي أبو سَعيدٍ: فلَمَّا بَلَغَ القاضيَ حُسَينًا ذلك رَدَّ جَميعَ مَذهَبِ الشَّافِعيِّ إلى أربَعِ قَواعِدَ)
[536] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 7). . وهيَ قِصَّةٌ استَنكَرَها البَعضُ
[537] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 312- 313). ويُنظر أيضًا: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/ 36). .
- ومِن أوائِلِ ما أُلِّفَ في القَواعِدِ الفِقهيَّةِ كَذلك: كِتابُ "التَّلخيص" لأبي العَبَّاسِ ابنِ القاصِّ (ت 335 هـ). وقد ذَهَبَ بَعضُ العُلَماءِ إلى أنَّ أوَّلَ مَن ألَّفَ في القَواعِدِ الفِقهيَّةِ هو أبو الحَسَنِ الكَرخيُّ (ت: 340هـ)، إلَّا أنَّ أبا العَبَّاسِ ابنَ القاصِّ توفِّيَ قَبلَ الكَرخيِّ بخَمسِ سَنَواتٍ
[538] يُنظر: ((المدخل المفصل)) لبكر أبو زيد (2/ 931)، ((الفروق الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 110). .
وهذا الكِتابُ في واقِعِه كِتابٌ في الفِقه موجَزٌ، لكِنَّه كَثيرًا ما يَذكُرُ الضَّوابِطَ والأحكامَ، ثُمَّ يُتبِعُ ذلك بما يُستَثنى مِنها
[539] ((الفروق الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 110). ، وقد عَدَّه البَعضُ أوَّلَ كُتُبِ القَواعِدِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ
[540] يُنظر: ((المختصر فيما عُرف من القواعد واشتهر)) لأنور أبو زيد (ص: 22). ، ولِابنِ السُّبكيِّ استِفاداتٌ مِنه في الضَّوابِطِ وما يُستَثنى مِنها
[541] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) (1/ 324). .
ومِن أمثِلةِ الضَّوابِطِ واستِثناءاتِها التي يُعنى بها ابنُ القاصِّ:1- قَولُه: (كُلُّ ما جازَ بَيعُه فعَلى مُتلِفِه قيمَتُه إلَّا العَبدَ المُرتَدَّ... وكُلُّ ما جازَ السَّلَمُ فيه جازَ استِقراضُه إلَّا واحِدةً، وهيَ الأَمَةُ)
[542] ((التلخيص)) (ص: 304). .
2- وقَولُه: (وكُلُّ مالٍ تَلِفَ في يَدَي أمينٍ مِن غَيرِ تَعَدٍّ فلا ضَمانَ إلَّا في واحِدٍ، وهو السُّلطانُ إذا استَسلَفَ للمَساكينِ زَكاةً قَبلَ حَولِها، فتَتلَفُ في يَدِه، ضَمِنَ للمَساكينِ)
[543] ((التلخيص)) (ص: 452). .
- ومِن أوائِلِ ما أُلِّفَ في هذا الشَّأنِ: كِتابُ "رِسالةٌ في الأُصولِ التي عليها مَدارُ فُروعِ الحَنَفيَّةِ" لأبي الحَسَنِ الكَرخيِّ الحَنَفيِّ (ت: 340هـ)، ويُسَمَّى اختِصارًا "أُصول الكَرخيِّ"
[544] وقد طُبعت ((أصول الكرخي)) في ذيل ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 161- 175)، وهي عبارة عن قواعد، وقد أدخل عليها النَّسَفيُّ أمثلةً ونظائِرَ وشواهِدَ. .
وقدِ استَهَلَّ الكَرخيُّ أُصولَه بقاعِدةِ: (الأصلُ أنَّ ما ثَبَتَ بيَقينٍ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، وقاعِدةِ: (الأصلُ أنَّ الظَّاهِرَ يَدفَعُ الاستِحقاقَ ولا يوجِبُ الاستِحقاقَ)، وقاعِدةِ: (الأصلُ أنَّ مَن ساعَدَه الظَّاهِرُ فالقَولُ قَولُه، والبَيِّنةُ على مَن يَدَّعي خِلافَ الظَّاهِرِ)
[545] يُنظر: ((أصول الكرخي)) بذيل ((تأسيس النظر)) (ص: 161- 162). .
- ومن أقدَمِ ما عُثِرَ عليه مِنَ المُؤَلَّفاتِ مِمَّا يُنسَبُ إلى القَواعِدِ أوِ الضَّوابِطِ الفِقهيَّةِ كِتابُ "تَأسيسُ النَّظائِرِ" لأبي اللَّيثِ السَّمَرقَنديِّ (ت: 373هـ)، وهو مُطابِقٌ لكِتابِ "تَأسيسُ النَّظَرِ" المَنسوبِ لأبي زَيدٍ الدَّبوسيِّ (ت: 430هـ)، باستِثناءِ خِلافاتٍ يَسيرةٍ
[546] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 318). ، وذَكَرَ بَعضُ العُلَماءِ أنَّ كِتابَ الدَّبوسيِّ مُستَلٌّ مِنه مَعَ زياداتٍ عليه
[547] يُنظر: ((المدخل المفصل)) لبكر أبو زيد (2/ 940). .
- كِتابُ "تَأسيسُ النَّظَرِ" لأبي زَيدٍ الدَّبوسيِّ (ت: 430هـ): يُعَدُّ مِن أنفَسِ ما أنتَجَه الفُقَهاءُ في بدايةِ القَرنِ الخامِسِ الهِجريِّ، وهو أوَّلُ كِتابٍ ظَهَرَ في الفِقه الموازَنِ قَبلَ أن يَكونَ أوَّلَ كِتابٍ في القَواعِدِ الفِقهيَّةِ، وقد أورَدَ القَواعِدَ باعتِبارِها وسيلةً إلى بَيانِ الخِلافِ، ولِكَي يُثبِتَ أنَّ الخِلافَ المَوجودَ بَينَ الفُقَهاءِ يَقومُ على أُسُسٍ مُعَيَّنةٍ
[548] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لعلي الندوي (ص: 132). .
كما تَبرُزُ أهَمِّيَّتُه في جانِبِه التَّطبيقيِّ، وذِكرِه الفُروعَ الفِقهيَّةَ المَبنيَّةَ على القَواعِدِ، وأكثَرُ ما ذَكَرَه مِنَ الأُصولِ ضَوابِطُ فِقهيَّةٌ، وليس فيما ذَكَرَه إلَّا القَليلُ مِنَ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ
[549] يُنظر: ((التخريج عند الفقهاء والأصوليين)) ليعقوب الباحسين (ص: 112). .