موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: السَّكرانُ هَل هو مُكَلَّفٌ حَتَّى تَصِحَّ تَصَرُّفاتُه كُلُّها سَواءٌ كانت له أو عليه؟


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "السَّكرانُ هَل هو مُكَلَّفٌ حَتَّى تَصِحَّ تَصَرُّفاتُه كُلُّها سَواءٌ كانت له أو عليه؟" [5961] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 113). ، وصيغةِ: "السَّكرانُ في الحُكمِ كالصَّاحي" [5962] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1444). ، وصيغةِ: "السَّكرانُ كالصَّاحي في تَصَرُّفاتِه" [5963] يُنظر: ((المهمات في شرح الروضة والرافعي)) للإسنوي (5/ 16). ، وصيغةِ: "السَّكرانُ في سائِرِ أحوالِه كالصَّاحي" [5964] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/ 205). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.
السَّكرانُ إن تَعَدَّى بسُكرِه بأن حَصَلَ سُكرُه بفِعلٍ مُحَرَّمٍ، كَأن شَرِبَ خَمرًا، فاختَلَفَ العُلَماءُ: هَل يَكونُ مُكَلَّفًا أو يَنتَفي عَنه التَّكليفُ بسُكرِه، فالمَشهورُ عِندَ المالِكيَّةِ أنَّه تَلزَمُه الجِناياتُ والعِتقُ والطَّلاقُ والحُدودُ، ولا تَلزَمُه الإقراراتُ والعُقودُ، والصَّحيحُ عِندَ الشَّافِعيَّةِ أنَّه مُكَلَّفٌ وحُكمُه حُكمُ الصَّاحي في الأُمورِ كُلِّها، والقَولُ الثَّالِثُ أنَّه يُقبَلُ مِنه ما عليه دونَ ما له مُؤاخَذةً وتَغليظًا، ويُقصَدُ بما له: الرَّجعةُ والإسلامُ، وأمَّا ما عليه: فالقِصاصُ والحُدودُ، وما له وعليه كالنِّكاحِ، والبُيوعِ وعُقودِ المُعاوَضاتِ [5965] يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/43)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 113)، ((المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (2/158،157)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/116)، ((العزيز)) للرافعي (8/565). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والمَعقولِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقۡرَبُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ [النساء: 43] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّهيَ لا يَتَناولُ إلَّا المُكَلَّفَ، فلَولا أنَّ التَّكليفَ قائِمٌ عليهم ما نَهاهم عَنِ الصَّلاةِ حالَ سُكرِهم [5966] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/4930)، ((المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (2/157). .
2- مِنَ المعقولِ:
وهو أنَّ رَفعَ القَلَمِ عَمَّن زالَ عَقلُه حالَ جُنونِه رُخصةٌ وتَخفيفٌ وتَسهيلٌ عليه، والسَّكرانُ قدِ ارتَكَبَ المَعصيةَ بالصِّفةِ التي هو عليها، فلا يَكونُ سَبَبًا للتَّخفيفِ عليه؛ لأنَّ المَعصيةَ لا تَجلِبُ الرُّخصةَ [5967] يُنظر: ((المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (2/157). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعدةِ:
1- يَقَعُ طَلاقُ السَّكرانِ لأنَّه مُكَلَّفٌ، ولأنَّ الطَّلاقَ إذا حَصَلَ مِن مُكَلَّفٍ صادَفَ مِلكَه يَقَعُ كالصَّاحي، ولأنَّه نَطَقَ بالطَّلاقِ وليس مَعَه ما يَدُلُّ على فقدِ قَصدِه بوجهٍ مَعذورٍ فيه، فوجَبَ أن يَقَعَ الطَّلاقُ كالصَّاحي [5968] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/4930)، ((المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (2/157). .
2- لَو باعَ السَّكرانُ أو أقَرَّ بشَيءٍ كان صَحيحًا مِنه؛ لأنَّ أفعالَه تَجري مَجرى أفعالِ الصَّاحي [5969] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/123)، ((الكافي)) لابن عبد البر (2/732)، ((بحر المذهب)) للروياني (6/94). .
3- لَو قَتَلَ السَّكرانُ مَن يُكافِئُه عَمدًا عُدوانًا فإنَّه يُقتَلُ به [5970] يُنظر: ((التفريع في فقه الإمام مالك)) لابن الجلاب (2/206)، ((الإرشاد إلى سبيل الرشاد)) لابن أبي موسى (ص: 452)، ((البيان)) للعمراني (11/303). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استثناءاتٌ:
ثَمَّةُ مَسائِلُ مُستَثناةٌ مِنَ القاعِدةِ السَّابِقةِ، فليست كُلُّ التَّصَرُّفاتِ يُعتَبَرُ فيها كالصَّاحي ويُعتَدُّ بقَولِه، بَل مَنِ اعتَبَرَ تَصَرُّفاتِه كَتَصَرُّفاتِ الصَّاحي استَثنى مِن ذلك بَعضَ التَّصَرُّفاتِ، مِنها:
1- لَو ارتَدَّ وهو سَكرانُ لا تَصِحُّ رِدَّتُه، فلا يُحكَمُ برِدَّتِه [5971] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 267)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (4/41). .
2- لَو أشهَدَ على شَهادةِ نَفسِه وهو سَكرانُ، لا تُقبَلُ الشَّهادةُ [5972] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 267)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (4/42). .
3- لَو أقَرَّ بحَدٍّ خالِصٍ لله وهو سَكرانُ فأخبَرَ بوُقوعِه في الزِّنا لا يُقبَلُ إقرارُه، فلا يُقامُ عليه حَدٌّ [5973] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 267)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (4/42). .
4- لَو زَوَّجَ الصَّغيرَ والصَّغيرةَ بأقَلَّ مِن مَهرِ المِثلِ أو بأكثَرَ فإنَّه لا يَنفُذُ، فإن قيلَ عليه: التَّزويجُ بأكثَرَ مَصلَحةٌ للصَّغيرِ فلَم لَم يَنفُذْ؟ أُجيبَ بأنَّ عَدَمَ النُّفوذِ لعَدَمِ اعتِبارِ عِبارَتِه، غَيرَ أنَّ التَّعبيرَ بعَدَمِ النُّفوذِ يَقتَضي انعِقادَه مَوقوفًا، وقَضيَّتُه أنَّه لَو صَحا فأجازَه نَفَذَ [5974] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 267)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (3/332)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (4/42). .
5- لَو وكَّلَ شَخصٌ آخَرَ بتَطليقِ زَوجَتِه حينَ صَحوِه فطَلَّقَها وهو سَكرانُ، فلا يَصِحُّ [5975] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 267)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (4/42). ونازَعَ الحَمَويُّ في هذا الفَرعِ قائِلًا: (قَولُه: الثَّانيةُ الوكيلُ بالطَّلاقِ. أقولُ: هذا قَولٌ، والصَّحيحُ الوُقوعُ، نَصَّ عليه في الخانيةِ، وقد نَصَّ المُصَنِّفُ أيضًا في البَحرِ على أنَّ الصَّحيحَ الوُقوعُ). ((غمز عيون البصائر)) (3/332). .
6- الوكيلُ بالبَيعِ لَو سَكِرَ فباعَ لَم يَنفُذْ على موكِّلِه [5976] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 267)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (4/42). .
7- لَو غَصَبَ شَيئًا وهو صاحٍ ثُمَّ رَدَّ المَغصوبَ وهو سَكرانُ، فلا يَصِحُّ رَدُّه [5977] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 267)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (4/42). ونازَعَ الحَمَويُّ في هذا الفَرعِ فقال: (إنَّ المَنقولَ في العِماديَّةِ في فصلِ الضَّماناتِ وفي أحكامِ السَّكرانِ أنَّ حُكمَ السَّكرانِ في هذه المَسألةِ حُكمُ الصَّاحي حَتَّى يَصِحَّ الرَّدُّ عليه ويَبرَأ الغاصِبُ مِنَ الضَّمانِ، وحينَئِذٍ لا يَصِحُّ استِثناءُ هذه المَسألةِ، بَل هيَ داخِلةٌ في العُمومِ). ((غمز عيون البصائر)) (3/332). .

انظر أيضا: