موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: الاختِلافُ في حُجِّيَّةِ الدَّليلِ الذي بُنيَت عليه القاعِدةُ الفِقهيَّةُ


فالدَّليلُ الذي يُستَدَلُّ به قد يَكونُ مُتَّفَقًا على حُجِّيَّتِه، كالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ، وقد يَكونُ مُختَلَفًا في حُجِّيَّتِه أو في شُروطِ العَمَلِ به؛ كَخَبَرِ الواحِدِ، والِاستِصحابِ، وشَرعِ مَن قَبلَنا، وعَمَلِ أهلِ المَدينةِ، وقَولِ الصَّحابيِّ، والمَصالِحِ المُرسَلةِ، وسَدِّ الذَّرائِعِ.
فالقَواعِدُ الفِقهيَّةُ قد تَكونُ مَبنيَّةً أو مُستَمَدَّةً مِن دَليلٍ مِن تلك الأدِلَّةِ المُختَلَفِ فيها؛ فمَن يَقولُ بحُجِّيَّةِ دَليلٍ مِنَ الأدِلَّةِ الأُصوليَّةِ، ثُمَّ يَبني عليه قاعِدةً مِنَ القَواعِدِ، فإنَّ تلك القاعِدةَ لن تَكونَ مُسَلَّمةً عِندَ مَن لا يَحتَجُّ بذلك الدَّليلِ، إلَّا إذا كانَ له دَليلٌ آخَرُ يُؤَدِّي به إلى اعتِبارِها.
ومِن أمثِلةِ ذلك:
قاعِدةُ: (الحَرامُ لا يُفسِدُ الحَلالَ) أو بصيغةٍ أُخرى: (الحَرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ): فهذه القاعِدةُ مَحَلُّ خِلافٍ بَينَ الشَّافِعيَّةِ والحَنَفيَّةِ، فالشَّافِعيَّةُ يَرَونَ أنَّ (الحَرامَ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ) [474] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/ 30)، ((المبسوط)) للسرخسي (4/ 204)، ((أقضية رسول اللهـ)) لابن الطلاع (ص: 108). ، بَينَما يَرى الحَنَفيَّةُ أنَّ (الحَرامَ يُحَرِّمُ الحَلالَ) [475] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/ 204)، ((أقضية رسول اللهـ)) لابن الطلاع (ص: 108). .
وسَبَبُ الخِلافِ: ما رويَ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ)) [476] أخرجه ابن ماجه (2015)، والدارقطني (4/400)، والبيهقي (14078) ضعفه الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجهـ)) (2015)، وذكر عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (3/137) أن فيه إسحاق بن محمد بن أبي فروة وهو متروك الحديث، وذكر ابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) (2/626) أن فيه الفروي قال يحيى كذاب وقال البخاري تركوه، وقال الذهبي في ((المهذب)) (6/2745): من مناكير إسحاق، وذكر شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (7/341) أن فيه إسحاق بن محمد صدوق، لكنه كف، فساء حفظه، وعبد الله بن عمر -العمري- ضعيف . وما رويَ عَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُحَرِّمُ الحَلالَ الحَرامُ)) [477] أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4803)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/160)، والبيهقي (14079) قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (388): باطل، وذكر ابن حبان في ((المجروحين)) (2/72) أن فيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به، وقال ابن عدي: لا يرويه عن الزهري غير عثمان بن عبد الرحمن وعامة أحاديثه مناكير إما إسناده أو متنه، وقال البيهقي في ((السنن الصغير)) (3/45): تفرّد به الوقاصي وهو ضعيف، وذكر عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (3/137) أن فيه عثمان بن عَبْد الرَّحْمن الوقاصي وهو متروك، وذكر ابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) (2/625) أن فيه عثمان بن عبد الرحمن هو الوقاصي قال أبو حاتم ابن حبان يروي عن الثقات الأثبات الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به وقال يحيى ليس بشيء يكذب وقال الدارقطني متروك، وذكر محمد ابن عبدالهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/353) أن فيه الوقاصيُّ: قال أبو حاتم الرازيُّ: متروك الحديث، ذاهب الحديث، كذَّاب. وقال النسائيُّ: متروك الحديث. وقال البخاريُّ: تركوه. . ومُفادُ الحَديثَينِ أنَّ الفِعلَ الحَرامَ لا يَتَرَتَّبُ عليه أحكامٌ تُؤَثِّرُ على الفِعلِ المُباحِ، وذلك في بابِ النِّكاحِ والرَّضاعِ خاصَّةً. فمَن أخَذَ بهَذَينِ الحَديثَينِ قال بأنَّ (الحَرامَ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ)، ومَن أعَلَّهما أو ضَعَّفَهما لم يَأخُذ بهما، وقال بأنَّ الحَرامَ يُحَرِّمُ الحَلالَ [478] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/ 56)، ((عيون الأدلة)) لابن القصار (5/ 565)، ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/ 704)، ((التجريد)) للقدوري (9/ 4453- 4454)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/ 215)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/ 118). .
قال الشَّافِعيُّ: (فهَل عِندَكَ سُنَّةٌ بأنَّ الحَرامَ يُحَرِّمُ الحَلالَ؟ قال: لا. قُلتُ: فأنتَ تَذكُرُ شَيئًا ضَعيفًا لا يَقومُ بمِثلِه حُجَّةٌ) [479] ((الأم)) للشافعي (7/ 30). . ونَحوُه السُّبكيُّ [480] قال السُّبكيُّ: (ومِنَ القَواعِدِ المُتَشَعِّباتِ والأُصولِ المُلتَقياتِ مِن هذه القاعِدةِ قَولُ أئِمَّتِنا: ما اجتَمَعَ الحَلالُ والحَرامُ إلَّا وغَلَبَ الحَرامُ الحَلالَ، وهو كما قال البَيهَقيُّ: حَديثٌ رَواه جابِرٌ الجُعفيُّ -رَجُلٌ ضَعيفٌ- عَنِ الشَّعبيِّ، عَنِ ابنِ مَسعودٍ، وهو مُنقَطِعٌ؛ غَيرَ أنَّ القاعِدةَ في نَفسِها صَحيحةٌ... وقد عورِضَ الحَديثُ المَذكورُ بما رَواه ابنُ ماجَه والدَّارَقُطنيُّ مِن حَديثِ ابنِ عُمَرَ "لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ". ولَيسَ بمُعارِضٍ؛ لأنَّ المَحكومَ به في الأولى أُعطيَ الحَلالُ حُكمَ الحَرامِ تَغليبًا واحتياطًا لا صَيرورَتُه في نَفسِه حَرامًا). ((الأشباه والنظائر)) (1/ 118). .

انظر أيضا: