الفرعُ الثَّالثُ: مَن ضَمِنَ بالإذنِ رَجَعَ وإن أدَّى بلا إذنٍ. ومَن لا فلا وإن أدَّى بإذنٍ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: (مَن ضَمِن بالإذنِ رَجَعَ وإن أدَّى بلا إذنٍ. ومَن لا فلا وإن أدَّى بإذنٍ)
[4312] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 462). ، وصيغةِ: (إن ضَمِنَ بالإذنِ رَجَعَ مُطلَقًا، وإن ضَمِن بغَيرِ إذنٍ لَم يَرجِعْ مُطلَقًا)
[4313] يُنظر: ((حاشية البجيرمي على شرح المنهج)) (3/ 37). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. إذا قامَ شَخصٌ بضَمانِ دَينٍ أو أداءِ التِزامٍ على شَخصٍ آخَرَ، وكان ذلك بإذنِ الشَّخصِ المَضمونِ عنه، أي: بموافقَتِه، فإنَّ الضَّامِنَ يَحِقُّ له أن يَستَرِدَّ ما دَفعَه مِنَ الشَّخصِ المَضمونِ عنه؛ لأنَّ الإذنَ يَعني أنَّ الضَّامِنَ قامَ بالتَّصَرُّفِ بناءً على طَلَبٍ أو تَفويضٍ مِنَ المَضمونِ عنه، ومن ثمَّ يَحِقُّ له أن يَستَرِدَّ ما دَفعَه، أمَّا إذا قامَ بضَمانِ دَينٍ على شَخصٍ آخَرَ دونَ إذنِ المَضمونِ عنه، فإنَّه لا يَحِقُّ له أن يَطلُبَ مِنَ المَضمونِ عنه رَدَّ ما دَفعَه؛ لأنَّه تَصَرَّف مِن تِلقاءِ نَفسِه دونَ تَفويضٍ أو طَلَبٍ مِنَ المَضمونِ عنه، ومن ثمَّ يُعتَبَرُ هذا الضَّمانُ تَبَرُّعًا مِن جانِبِه
[4314] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/151)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (7/6)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 462). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على الرُّجوعِ - أي: طَلَب الاستِردادِ- حينَما يَضمَنُ بإذنِ المَضمونِ عنه: المَعقولُ:
وهو أنَّ شَغلَ ذِمَّتِه بالدَّينِ كان بإذنِ المَضمونِ عنه، فإذا استُوفيَ مِنه ثَبَتَ له حَقُّ الرُّجوعِ
[4315] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/151). .
ودَلَّ على عَدَمِ الرُّجوعِ إن ضَمِن بغَيرِ إذنِه: السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ: عن سَلمةَ بنِ الأكوَعِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا جُلوسًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أُتِيَ بجِنازةٍ، فقالوا: صَلِّ عليها، فقال: هل عليه دَينٌ؟ قالوا: لا، قال: فهل تَرَك شيئًا؟ قالوا: لا، فصلَّى عليه، ثمَّ أُتِيَ بجِنازةٍ أُخرى، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، صَلِّ عليها، قال: هل عليه دَينٌ؟ قيل: نعم، قال: فهل تَرَك شَيئًا؟ قالوا: ثلاثةَ دنانيرَ، فصلَّى عليها، ثمَّ أُتِيَ بالثَّالثةِ، فقالوا: صلِّ عليها، قال: هل تَرَك شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دَينٌ؟ قالوا: ثلاثةُ دنانيرَ، قال: صَلُّوا على صاحِبِكم، قال أبو قتادةَ صَلِّ عليه يا رسولَ اللهِ، وعَلَيَّ دَينُه، فصلَّى عليهـ)) [4316] أخرجه البخاري (2289). .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ أبا قتادةَ رَضيَ اللهُ عنه ضَمِن وأدَّى دَينَ المَيِّتِ بغَيرِ إذنِه، فلَوِ استَحَقَّ الرُّجوعَ والمُطالَبةَ بما دَفعَه، لَصارَ له دَينٌ على المَيِّتِ، وحينَها لَم يَكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُصَلِّيَ عليه؛ لعَدَم فائِدةِ الضَّمانِ إذًا؛ إذ ذِمَّةُ المَيِّتِ لَم تَزَلْ مَشغولةً بدَينٍ
[4317] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (4/ 120)، ((معلمة زايد)) (13/659). .
2- مِنَ المَعقولِ: وهو أنَّه إن ضَمِنَ بغَيرِ إذنِه وأدَّى بغَيرِ إذنِه فهو مُتَبَرِّعٌ، كما لَو أنفقَ على عِيالِ إنسانٍ بغَيرِ إذنِه، فلا يَرجِعُ عليه بطَلَبِ رَدِّ ما أنفَقَه
[4318] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/151)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (7/6)، ((التهذيب)) للبغوي (4/171). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- لَو زَوَّجَ الأبُ ابنَه الصَّغيرَ وصَرَّح بضَمانِ المَهرِ، فيَصيرُ حينَئِذٍ ضامِنًا، والمَرأةُ بالخيارِ، فإن شاءَت طالَبَتِ الابنَ إذا بَلَغَ، أو طالَبَتِ الأبَ بالأداءِ مِن مالِه، والأبُ إذا ضَمِنَ ثُمَّ غَرِم فإنَّه يَرجِعُ على الابنِ؛ لأنَّ الأبَ لا يَحتاجُ إلى تَصريحٍ بشَرطٍ حَتَّى يَرجِعَ، ولَكِن يَكفي قَصدُه، فنَضَعُ قَصدَه مَوضِعَ الإذنِ وشَرطِ الرُّجوعِ
[4319] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (13/92،91). .
2- لَو كان لرَجُلٍ على آخَرَ مِائةُ دينارٍ، فضَمِنَه رَجُلانِ: كُلُّ واحِدٍ خَمسينَ بإذنِه، ثُمَّ ضَمِنَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الضَّامِنينَ عن صاحِبِه: جازَ، ويَكونُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الضَّامِنينَ مُطالَبًا بمِائةٍ: بخَمسينَ عنِ الأصيلِ، وبخَمسينَ عنِ الضَّامِنِ، فلَو أدَّى أحَدُهما خَمسينَ نُظِر: إن أدَّى عنِ الأصيلِ رَجَعَ عليه، وإن أدَّى عن صاحِبِه رَجَعَ عليه، وإن أدَّى عنهما رَجَعَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما بنِصفِه
[4320] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (4/182). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ. استِثناءاتٌ: قال السُّيوطيُّ: (مَن ضَمِن بالإذنِ رَجَعَ وإن أدَّى بلا إذنٍ. ومَن لا فلا وإن أدَّى بإذنٍ. ويُستَثنى مِنَ الأوَّلِ صُوَرٌ: إحداها: أن يَكونَ الضَّمانُ بالإذنِ قد ثَبَتَ بالبَيِّنةِ وهو مُنكِرٌ، كما إذا ادَّعى على زَيدٍ وعلى غائِبٍ ألفًا، وأنَّ كُلًّا مِنهما ضَمِنَ ما على الآخَرِ، فأنكَرَ زَيدٌ، فأقامَ المُدَّعي بَيِّنةً بذلك، وأخَذَ مِن زَيدٍ، فلا رُجوعَ لزَيدٍ على الغائِبِ في الأصَحِّ؛ لأنَّه مَظلومٌ بزَعمِه، فلا يُطالِبُ غَيرَ ظالِمِهـ)
[4321] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 57). ويُنظر: ((الضمان)) لعلي الخفيف (ص: 278). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش