المَطلَبُ الأوَّلُ: الغُنْمُ بالغُرمِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: (الغُنْمُ بالغُرمِ)
[4231] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/267). ، وصيغةِ: (الغُرمُ مُقابَلٌ بالغُنْمِ)
[4232] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/209). ، وصيغةِ: (مُقابَلةُ الغُنْمِ بالغُرمِ)
[4233] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (8/81). ، وصيغةِ: (النِّعمةُ بقَدرِ النِّقمةِ، والنِّقمةُ بقَدرِ النِّعمةِ)
[4234] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 26). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ مَن يَتَحَمَّلُ ضَرَرَ شَيءٍ يَجِبُ أن يَنالَ نَفعَه، بمَعنى أنَّه مَن يَضمَنُ شَيئًا إذا تَلِف يَكونُ نَفعُ ذلك الشَّيءِ له إذا حَدَثَ مِنه نَفعٌ، وذلك في مُقابِلِ ضَمانِه حالَ التَّلَفِ
[4235] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/88-90). .
وبَينَ هذه القاعِدةِ وقاعِدةِ "الخَراجُ بالضَّمانِ" عُمومٌ وخُصوصٌ مُطلَقٌ، أي: أنَّ هذه القاعِدةَ أعَمُّ مِن قاعِدةِ: الخَراجُ بالضَّمانِ؛ إذ هذه الأخيرةُ قَضيَّةٌ جُزئيَّةٌ مِن تلك وصورةٌ مِن صُوَرِها.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قال اللهُ تعالى:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ... [البقرة: 233] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ أوجَبَ نَفقةَ الصَّبيِّ وكِسوتَه على أبيه، ثُمَّ أخبَرَ أنَّه على الوارِثِ مِثلُ ما على الأبِ مِنَ النَّفقةِ والكِسوةِ إذا ماتَ الأبُ، فكَما ورِثَ وغَنِمَ يَغرَمُ النَّفَقةَ
[4236] يُنظر: ((بحر العلوم)) للسمرقندي (1/153)، ((النكت والعيون)) للماوردي (1/301،300)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (4/252). .
- وقال اللهُ سُبحانَه:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 30-31] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أوضَح أنَّ المَعصيةَ مِن نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُضاعَفُ عَذابُها في الآخِرةِ ضِعفَينِ، وفي المُقابِلِ الحَسَنةُ تُضاعَفُ مِثلَينِ، وهذا مَضمونُ القاعِدةِ أيضًا أنَّ الغُنْمَ بالغُرمِ، فكَما تُعاقَبُ ضِعفينِ على المَعصيةِ تُثابُ على الحَسَنةِ مِثلَي الثَّوابِ
[4237] يُنظر: ((الكشف والبيان)) للثعلبي (21/410-412)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (18/229- 231). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الرَّهنُ يُركَبُ بنَفقَتِه إذا كان مَرهونًا، ولَبَنُ الدَّرِّ يُشرَبُ بنَفقَتِه إذا كان مَرهونًا، وعلى الذي يَركَبُ ويَشرَبُ النَّفَقةُ)) [4238] أخرجه مسلم (2512). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الحَديثَ بَيَّنَ أنَّ للمُرتَهِنِ أن يَنتَفِعَ مِنَ الرَّهنِ بالحَلبِ والرُّكوبِ مُقابلَ النَّفقةِ، فثَبَتَ أنَّ انتِفاعَ المُرتَهِنِ بالرَّهنِ غُنمٌ يُقابِلُه غُرمٌ هو إنفاقُه عليه، وهو مَضمونُ القاعِدةِ
[4239] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/161)، ((التحبير لإيضاح معاني التيسير)) للصنعاني (4/447). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا جَنى اللَّقيطُ المُسلمُ الحُرُّ على آدَميٍّ خَطَأً أو شِبهَ عَمدٍ فأَرْشُ جِنايَتِه في بَيتِ مالِ المُسلمينَ؛ إذ ليس له عاقِلةٌ خاصَّةٌ، ولبَيتِ المالِ الإرثُ، أي: إرثُ اللَّقيطِ المُسلِمِ الحُرِّ؛ إذِ الغُنمُ بالغُرمِ
[4240] يُنظر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (3/414). .
2- أُجرةُ رَدِّ العاريَّةِ على المُستَعيرِ؛ وذلك لأنَّ الأجرَ مُؤنةُ الرَّدِّ، فمَن وجَبَ عليه الرَّدُّ وجَبَ أجرُه، والرَّدُّ في العاريَّةِ واجِبٌ على المُستَعيرِ؛ لأنَّه قَبَضَه لمَنفعةِ نَفسِه، والغُرمُ بإزاءِ الغُنْمِ
[4241] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (9/16)، ((البناية)) للعيني (10/155). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.دَفعُ وَهمٍ:ليس مَعنى قاعِدةِ (الغُنْمُ بالغُرمِ) أنَّ كُلَّ مَن أخذَ الغُنْمَ وجَبَ عليه الغُرمُ فِعلًا، بَل المَقصودُ أنَّ عليه أن يَتَحَمَّلَ الغُرمَ إن وُجِدَ الغُرمُ، وإلَّا فقد يَغرَمُ، وقد لا يَغرَمُ إذا لم يَقُمْ سَبَبُ الغُرمِ، كالتَّاجِرِ قد لا تَتَعَرَّضُ تِجارَتُه للخَسارةِ، ولَكِنَّ العِبرةَ بقَبولِ المَبدَأِ والاحتِكامِ إليه، وأيضًا كما أنَّ الغُنْمَ مُستَحَقٌّ بالغُرمِ، فإنَّ الغُرمَ مَشروعٌ تحَمُّلُه بالغُنْمِ، وقد جاءَ مِن صيَغِ القاعِدةِ: "الغُرمُ مُقابَلٌ بالغُنْمِ"، وليس بالضَّرورةِ أيضًا وُجودُ الغُنْمِ فِعلًا لتَسويغِ تَحمُّلِ الغُرمِ، بَل يَكفي ظَنُّ وُقوعِه
[4242] ((معلمة زايد)) (14/372). .