الفرعُ الثَّاني: المُكرَهُ يَرجِعُ على مُكرِهِه بالضَّمانِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: (المُكرَهُ يَرجِعُ على مُكرِهِه بالضَّمانِ)
[4219] يُنظر: ((حاشية الجمل على شرح المنهج)) (2/527). ، وصيغةِ: (للمُكرَهِ أن يَرجِعَ على المُجبِرِ ببَدَلِ المُكرَهِ عليهـ)
[4220] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/728). ، وصيغةِ: (إذا ضَمِنَ المُكرَهُ رَجَعَ بما غَرِمَ على مَن أكرَهه، وإذا ضَمِنَ مَن أكرَهَه لَم يَرجِعْ على المُكرَهِ بشَيءٍ)
[4221] يُنظر: ((الضمان في الفقه الإسلامي)) للخفيف (ص: 68). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.الإكراهُ هو حَملُ الشَّخصِ غَيرَه على ما لا يَرضاه مِن قَولٍ أو فِعلٍ، فإذا أكرَهَ شَخصٌ آخَرَ على إتلافِ مالِ غَيرِه أو أكرَهَه على فِعلٍ يوجِبُ الضَّمانَ، فإنَّ الضَّمانَ يَكونُ على المُكرِهِ، فإذا التَزَمَ المُكرَهُ قيمةَ التَّلَفِ فإنَّه يَرجِعُ بقيمةِ ما التَزَمَ على المُكرِهِ، ولا يُباحُ بالإكراهِ قَتلٌ ولِواطٌ ولا زِنًا، فإنَّ هذه الأفعالَ لَو أُكرِهَ عليها الإنسانُ لا يَنبَغي عليه أن يَفعَلَها، فإذا عَجَزَ عنِ الدَّفعِ فإنَّه يَصبِرُ حَتَّى المَماتِ، وإن عَجز عنِ الدَّفعِ فيما سِوى ذلك فإنَّ الضَّمانَ حينَئِذٍ على المُكرِهِ؛ لأنَّ المُكرَهَ كالآلةِ في يَدِه، فكان هو المُتلِفَ حَقيقةً، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (يَصِحُّ ضَمانُ كُلِّ جائِزِ التَّصَرُّفِ)
[4222] يُنظر: ((الفوائد في اختصار المقاصد)) لعز الدين بن عبد السلام (ص: 90)، ((حاشية الجمل على شرح المنهج)) (2/527)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/728). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ والمَعقولِ:
1- مِنَ الإجماعِ:نقل الإجماعَ ابنُ السِّمنانيِّ، فقال: (واتَّفقَ الجَميعُ على أنَّ رَجُلًا لَو أكرَهَ رَجُلًا على إتلافِ مالِ نَفسِه أو قَتلِ عَبدِه أو حَيَوانٍ له، ففعَلَ ذلك، فلا ضَمانَ على الفاعِلِ المُكرَهِ؛ لأنَّه آلةٌ في فِعلِه، فصارَ (المُكرِهُ) كَأنَّه هو الفاعِلُ لذلك... وإن أُكرِهَ على إتلافِ مالٍ لغَيرِه فعلى المُكرِهِ والمُكرَهِ الضَّمانُ، ولمالِكِه أن يُضَمِّنَ أيَّهما شاءَ، فإن ضَمَّنَ المُكرَهَ رَجَعَ به على المُكرِهِ، وهذا لا خِلافَ فيه نَعلَمُهـ)
[4223] ((روضة القضاة)) (3/ 1281). .
2- مِنَ المَعقولِ:وهو أنَّ المُكرِهَ هو الفاعِلُ مِن حَيثُ المَعنى، وإنَّما المُكرَهُ بمَنزِلةِ الآلةِ؛ لأنَّه مَسلوبُ الاختيارِ، فكان التَّلَفُ حاصِلًا بإكراهِه، فكان الضَّمانُ عليه لا على المُكرَهِ
[4224] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/179). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لَو أُكرِهَ أحَدٌ على إتلافِ مالِ إنسانٍ فأتلَفَه، فالضَّمانُ على المُكرِهِ لا على المُكرَهِ، سَواءٌ قيلَ: إنَّه لا تتَوَّجَهُ المُطالَبةُ على المُكرَهِ أصلًا، أو قيلَ: إنَّه يَجوزُ لمالكِ المالِ مُطالَبةُ المُكرَهِ المُتلِفِ لصُدورِ الإتلافِ مِنه، ثُمَّ المُكرَهُ يَرجِعُ على المُكرِهِ
[4225] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (16/120)، ((التهذيب)) للبغوي (7/66)، ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (3/274)، ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/864). .
2- إذا غَصَبَ شَخصٌ سَيَّارةً مِن آخَرَ، فأكرَه رَجُلًا آخَرَ على تَشغيلِها والذَّهابِ بها إلى مَكانٍ بعَينِه، فتَلِفَت أو تَلِفَ شَيءٌ مِنها، فإنَّ الضَّمانَ على المُكرِهِ له
[4226] يُنظر: ((حاشية الشرواني على شرح المنهاج)) (6/ 14)، ((حاشية الشبراملسي على شرح المنهاج)) (5/ 156). .
3- إذا أُجبِرَ الإنسانُ على الهبةِ أوِ الصَّدَقةِ لشَخصٍ آخَرَ، فوهَبَ الهِبةَ أو تصَدَّق، وغابَ المَوهوبُ له بحَيثُ لا يُقدَرُ عليه، كان للواهِبِ أن يَرجِعَ على المُجبِرِ بقيمةِ ذلك المالِ، وكَذلك في الصَّدَقةِ
[4227] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/ 741). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءٌ:إذا كانتِ المَنفعةُ تَعودُ إلى المُكرَهِ المُباشِرِ للإتلافِ: كَمَن أُكرِهَ على أكلِ طَعامِ نَفسِه إن كان جائِعًا، فلا رُجوعَ له، وإن كان شَبعانَ فإنَّه يَرجِعُ بقيمَتِه على المُكرِهِ؛ لحُصولِ مَنفعةِ الأكلِ له في الأوَّلِ لا الثَّاني
[4228] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/394)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 604)، ((الفتاوى العالمكيرية)) لنظام الدين (5/ 48). .
قال الكاسانيُّ: (أكلُ مالِ نَفسِه ولُبسُ ثَوبِ نَفسِه ليس مِن بابِ الإتلافِ، بَل هو صَرفُ مالِ نَفسِه إلى مَصلَحةِ بَقائِه، ومَن صَرَف مالَ نَفسِه إلى مَصلَحَتِه لا ضَمانَ له على أحَدٍ)
[4229] ((بدائع الصنائع)) (7/ 179). .
فائِدةٌ:فرقٌ بَينَ الإكراهِ التَّامِّ والإكراهِ النَّاقِصِ في ضَمانِ الإتلافِ.
قال الكاسانيُّ: (المُكرَهُ على إتلافِ مالِ الغَيرِ:
إذا أتلَفه يَجِبُ الضَّمانُ على المُكرِهِ دونَ المُكرَهِ إذا كان الإكراهُ تامًّا: لأنَّ المُتلِفَ هو المُكرِهُ مِن حَيثُ المَعنى، وإنَّما المُكرَهُ بمَنزِلةِ الآلةِ، على مَعنى أنَّه مَسلوبُ الاختيارِ إيثارًا وارتِضاءً، وهذا النَّوعُ مِنَ الفِعلِ مِمَّا يُمكِنُ تَحصيلُه بآلةٍ غَيرِه بأن يَأخُذَ المُكرَهَ فيَضرِبَه على المالِ، فأمكَنَ جَعلُه آلةَ المُكرِهِ، فكان التَّلَفُ حاصِلًا بإكراهِه، فكان الضَّمانُ عليه.
وإن كان الإكراهُ ناقِصًا: فالضَّمانُ على المُكرَهِ؛ لأنَّ الإكراهَ النَّاقِصَ لا يَجعَلُ المُكرَهَ آلةَ المُكرِهِ؛ لأنَّه لا يَسلُبُ الاختيارَ أصلًا، فكان الإتلافُ مِنَ المُكرَهِ فكان الضَّمانُ عليهـ)
[4230] ((بدائع الصنائع)) (7/ 179). .