المَبحَثُ الخامِسَ عَشَرَ: الحَقُّ الواحِدُ يَجوزُ أن يَثبُتَ في مَحَلَّينِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: الحَقُّ الواحِدُ يَجوزُ أن يَثبُتَ في مَحَلَّينِ
[3751] يُنظر: ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 170)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 78). ، وصيغةِ: يَجوزُ أن يُعتَبَرَ الشَّيءُ الواحِدُ في ذِمَّتَينِ
[3752] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (7/163)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/729). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُعَبِّرُ هذه القاعِدةُ عن مَذهَبِ جُمهورِ العُلَماءِ في جَوازِ ثُبوتِ الحَقِّ الواحِدِ في مَحَلَّينِ مُختَلِفَينِ، فتُفيدُ أنَّ الحَقَّ الواحِدَ يَجوزُ أن يَكونَ ثابِتًا في ذِمَّتَينِ، فتَكونُ ذِمَّةٌ انضَمَّت إلى ذِمَّةٍ، وذِمَّةٌ تَضَمَّنَت ذِمَّةً؛ فإنَّ صاحِبَ الحَقِّ كان يَطلُبُ حَقَّه مِن مَحَلٍّ واحِدٍ، والآنَ يَطلُبُه مِن مَحَلَّينِ، ولا يَمتَنِعُ أن يَكونَ الحَقُّ الواحِدُ يستَحقُّ المُطالَبةُ به مِن شَخصَينِ، ومَعنى ذلك أنَّ الذِّمَّتَينِ إنَّما اشتَغَلَتا بدَينٍ واحِدٍ؛ فثُبوتُ الحَقِّ في الذِّمَّةِ تَقديرٌ شَرعيٌّ، وليس مِن بابِ حُلولِ الشَّيءِ الواحِدِ في مَحَلَّينِ
[3753] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/437)، ((شرح التلقين)) للمازري (3/2/137)، ((بحر المذهب)) للروياني (5/461)، ((الذخيرة)) للقرافي (9/223)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (5/271)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/458). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قال اللهُ تعالى:
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف: 72] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ المُرادَ بقَولِه:
زَعيمٌ: كَفيلٌ، والكَفالةُ ضَمُّ إحدى الذِّمَّتَينِ إلى الأُخرى في المُطالَبةِ بشَيءٍ للِاستيثاقِ
[3754] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (3/2/140)، ((شرح مشكلات القدوري)) للكردري (2/29)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/724). ، فدَلَّ ذلك على جَوازِ ثُبوتِ الحَقِّ الواحِدِ في مَحَلَّينِ.
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن أبي أُمامةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((إنَّ اللَّهَ قد أعطى كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه، فلا وصيَّةَ لوارِثٍ، ولا تُنفِقُ المَرأةُ شَيئًا مِن بَيتِها إلَّا بإذنِ زَوجِها. فقيلَ: يا رَسولَ اللهِ، ولا الطَّعامَ؟ قال: ذاكَ أفضَلُ أموالِنا. ثُمَّ قال: العاريَّةُ مُؤَدَّاةٌ، والمِنحةُ مَردودةٌ، والدَّينُ مَقضيٌّ، والزَّعيمُ غارِمٌ )) [3755] أخرجه أبو داود (3565) واللفظ له، والترمذي (2120) باختلاف يسير، وابن ماجه (2295، 2405، 2398، 2713) مفرَّقًا باختلافٍ يسير. صحَّحه القرطبيُّ المفسر في ((التفسير)) (6/426)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (16/434)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3565)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3565)، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه:
((الزَّعيمُ غارِمٌ)) يَدُلُّ على أنَّ لصاحِبِ الحَقِّ مُطالَبةَ الضَّامِنِ، ومُطالَبةَ الأصيلِ، ولا مَحذورَ في مُطالَبَتِهما، وإنَّما المَحذورُ في تَغريمِهما مَعًا كُلَّ الدَّينِ؛ لأنَّ الذِّمَّتَينِ إنَّما اشتَغَلَتا بدَينٍ واحِدٍ
[3756] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (5/271)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/458). .
3- مِنَ الإجماعِ:وقد نَقَلَه المازَريُّ على صورةٍ مِن صُوَرِ المَسألةِ، وهيَ أنَّ الحَمالةَ بالمالِ لا تُبرِئُ ذِمَّةَ المُتَحَمَّلِ عنه، بَل يَصيرُ الدَّينُ مُتَوجِّهًا في ذِمَّتَينِ: في ذِمَّةِ الغَريمِ، وذِمَّةِ الحَميلِ
[3757] قال: (اتَّفَقَ الجَميعُ على أنَّ مَن له الدَّينُ إذا حيلَ بَينَه وبَينَ أخذِ حَقِّهِ مِنَ الغَريمِ؛ لِفَقرٍ حَدَثَ بالغَريمِ، أو تَغَيُّبَ، أو لَدَدٍ، أو امتِناعٍ لا يَقدِرُ مَعَه على الِانتِصافِ مِنه، فإنَّ له أخذَ الدَّينِ مِنَ الحَميلِ). ((شرح التلقين)) (3/2/175). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا ضَمِنَ رَجُلٌ عن رَجُلٍ حَقًّا، فلِلمَضمونِ له أن يَأخُذَ أيَّهما شاءَ؛ لأنَّ الضَّمانَ وثيقةُ المالِ، فلا يَنتَقِلُ مِن ذِمَّةِ المَضمونِ عنه إلَّا بالأداءِ، ولِلمَضمونِ له مُطالَبةُ كُلِّ واحِدٍ، سَواءٌ مِنَ الضَّامِنِ والمَضمونِ عنه، حَتَّى يَقضيَ حَقَّه مِن أحَدِهما، فيَبرَآنِ مَعًا
[3758] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/436). .
2- إذا كان لرَجُلٍ على رَجُلَينِ ألفُ دِرهَمٍ، على كُلِّ واحِدٍ مِنهما خَمسُمِائةٍ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما كَفيلٌ ضامِنٌ عن صاحِبِه، ولِرَجُلٍ عليه ألفٌ، فأحالَه عليهما على أن يُطالِبَ أيَّهما شاءَ، هَل تَصِحُّ الحَوالةُ؟ فيه وجهانِ؛ لأنَّه زادَ حَقَّه بذلك؛ فإنَّه كان يَطلُبُ حَقَّه مِن مَحَلٍّ واحِدٍ، والآنَ يَطلُبُه في مَحَلَّينِ
[3759] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (5/461). .
3- مَن غَصَبَ شَيئًا، ثُمَّ غَصَبَه مِنه غاصِبٌ آخَرُ، واستَهلَكَه، كان للمالِكِ مُطالَبةُ كُلِّ واحِدٍ مِنهما به، ولا يَمتَنِعُ أن يَكونَ الحَقُّ الواحِدُ يستَحَقُّ المُطالَبةُ به مِن شَخصَينِ
[3760] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/437). .