المَبحَثُ الثَّاني: كُلُّ مَن سَبَقَ إلى مَوضِعٍ مُباحٍ فهو أحَقُّ به
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ مَن سَبَقَ إلى مَوضِعٍ مُباحٍ فهو أحَقُّ به"
[3173] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/164). ، وصيغةِ: "مَن سَبَقَ إلى مُباحٍ فهو أحَقُّ به"
[3174] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (6/26)، ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (4/287). ، وصيغةِ: "مَن سَبَقَت يَدُه إلى شَيءٍ مِن المُباحاتِ فقد مَلَكَه"
[3175] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (12/217). ، وصيغةِ: "مَن سَبَقَ إلى شَيءٍ وأحرَزَه كان أحَقَّ به"
[3176] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/1165). ، وصيغةِ: "المُباحُ مُباحٌ لمَن سَبَقَ"
[3177] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/134). ، وصيغةِ: "مَن سَبَقَ إلى مُباحٍ استَحَقَّه"
[3178] يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (17/786). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ مَن سَبَقَ إلى مَوضِعٍ مُباحٍ في مَجلِسِ عِلمٍ أو غَيرِه فهو أحَقُّ بمَكانِه وأولى به، ولا يُنحى مِنه لمَجيءِ مَن هو أولى مِنه بالجُلوسِ في المَوضِعِ المَذكورِ، بَل يَجلِسُ الآتي حَيثُ انتَهى به المَجلِسُ، لَكِن إن آثَرَه السَّابِقُ جازَ. والحِكمةُ في هذا النَّهيِ مَنعُ استِنقاصِ حَقِّ المُسلِمِ المُقتَضي للضَّغائِنِ، والحَثُّ على التَّواضُعِ المُقتَضي للمَودَّةِ، وأيضًا فالنَّاسُ في المُباحِ كُلُّهم سَواءٌ؛ لأنَّ مَن سَبَقَ إلى شَيءٍ استَحَقَّه، ومَن استَحَقَّ شَيئًا لَم يُدفَعْ عنه إلَّا بإذنِه، كَبيرًا كان أو صَغيرًا إذا كان مِمَّن يَجوزُ إذنُه، وإن أُخِذَ مِنه بغَيرِ حَقٍّ فهو غَصبٌ، والغَصبُ حَرامٌ
[3179] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/164)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/76) و(11/63)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (17/786)، ((البحر المحيط الثجاج)) لمحمد علي الإتيوبي (34/191). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:- عن عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنهما
((أنَّ رَجُلًا مِن الأنصارِ خاصَمَ الزُّبَيرَ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شِراجِ الحَرَّةِ التي يَسقونَ بها النَّخلَ، فقال الأنصاريُّ: سَرِّحِ الماءَ يَمُرُّ. فأبى عليه، فاختَصَما عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للزُّبَيرِ: اسقِ يا زُبَيرُ، ثُمَّ أرسِلِ الماءَ إلى جارِكَ. فغَضِبَ الأنصاريُّ فقال: أن كان ابنَ عَمَّتِكَ؟! فتَلَوَّنَ وجهُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ قال: اسقِ يا زُبَيرُ، ثُمَّ احبِسِ الماءَ حَتَّى يَرجِعَ إلى الجَدْرِ. فقال الزُّبَيرُ: واللهِ إنِّي لَأحسَبُ هذه الآيةَ نَزَلَت في ذلك: فَلَا ورَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّموكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ [النساء: 65] )) [3180] أخرجه البخاري (2359، 2360) واللفظ له، ومسلم (2357). .
وَجهُ الدَّلالةِ:دَلَّ الحَديثُ على أنَّ الماءَ الذي يَنحَدِرُ إنَّما يَكونُ على أصلِ الإباحةِ، فمَن يَسبِقُ إلَيه فهو أحَقُّ بالانتِفاعِ به، بمَنزِلةِ النُّزولِ في المَوضِعِ المُباحِ؛ لأنَّ كُلَّ مَن سَبَقَ إلى مَوضِعٍ فهو أحَقُّ به، ولَكِن ليس له أن يَتَعنَّتَ، ويَقصِدَ الإضرارَ بالغَيرِ في مَنعِه عَمَّا وراءَ مَوضِعِ الحاجةِ، فعِندَ قِلَّةِ الماءِ بَدا أهلُ الأعلى أسبَقَ إلى الماءِ، فلَهم أن يَحبِسوه عن أهلِ الأسفَلِ، وبِهذا قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[3181] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/164). .
- وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن أحيا أرضًا مَيتةً فهيَ له )) [3182] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة التضعيف قبل حديث (2335)، وأخرجه موصولًا الترمذي (1379)، وأحمد (14636). صحَّحه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (96)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/57)، والعيني في ((عمدة القاري)) (12/246)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1379)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:دَلَّ الحَديثُ على أنَّ مَن سَبَقَ إلى إحياءِ أرضٍ مَيتةٍ لَيسَت لأحَدٍ فهو أحَقُّ بها، بشَرطِ ألَّا يَكونَ لمُسلِمٍ فيها حَقٌّ، فيُحييها الشَّخصُ بالسَّقيِ، أو الزَّرعِ، أو الغَرسِ، أو البِناءِ، أو بالتَّحويطِ على الأرضِ
[3183] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/152)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (6/4616). .
2- مِنَ القواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ: (مَن استَحَقَّ شَيئًا لَم يُدفَعْ عنه إلَّا بإذنِهـ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- مَن سَبَقَ إلى مَوضِعٍ مُباحٍ في المَسجِدِ وغَيرِه يَومَ الجُمُعةِ أو غَيرِه لصَلاةٍ أو غَيرِها فهو أحَقُّ به، ويَحرُمُ على غَيرِه إقامَتُه
[3184] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/160)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (10/3066). .
2- إذا حَضَرَ الخُصومُ إلى مَجلِسِ القَضاءِ أو التَّحكيمِ واحِدًا بَعدَ واحِدٍ قُدِّمَ الأوَّلُ فالأوَّلُ؛ لأنَّ الأوَّلَ سَبَقَ إلى حَقٍّ له فقُدِّمَ على مَن بَعدَه، كما لَو سَبَقَ إلى مَوضِعٍ مُباحٍ، وإن حَضَروا في وقتٍ واحِدٍ أو سَبَقَ بَعضُهم وأشكَلَ السَّابِقُ أُقرِعَ بَينَهم، فمَن خَرَجَت له القُرعةُ قُدِّمَ؛ لأنَّه لا مَزيَّةَ لبَعضِهم على بَعضٍ، فوجَبَ التَّقديمُ بالقُرعةِ
[3185] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/392)، ((الكافي)) لابن قدامة (4/236)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (6/302). .
3- مَن سَبَقَ إلى مُباحٍ -كالسُّنبُلِ الذي يَنتَثِرُ مِن الحَصَّادينَ، وثَمَرِ الشَّجَرِ المُباحِ، والبَلَحِ والحَطَبِ، وما يَنبِذُه النَّاسُ رَغبةً عنه، واللُّقَطةِ- فهو أحَقُّ به، فإن استَبَقَ إلَيه اثنانِ قُسِمَ بَينَهما؛ لأنَّهما اشتَرَكا في السَّبَبِ، فاشتَرَكا في المَملوكِ به، كما لَو ابتاعاه
[3186] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/250)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (16/138)، ((الممتع)) لابن المنجى (3/112). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:يُستثنى من هذه القاعِدةِ بعضُ الصُّوَرِ، منها:
1- إذا آثَرَ صاحِبُ الحَقِّ غَيرَه بمَوضِعِه فقدَّمَ غَيرَه على نَفسِه، فيَجوزُ؛ لأنَّ الحَقَّ له، فجازَ أن يُؤثِرَ به غَيرَه
[3187] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/392)، ((الكافي)) لابن قدامة (4/236). .
2- إذا ألِفَ أحَدٌ مِن المَسجِدِ مَوضِعًا يُفتي فيه، أو يُقرِئُ قُرآنًا أو غَيرَه مِن العُلومِ الشَّرعيَّةِ، فهو أحَقُّ به، وإذا حَضَرَ لَم يَكُنْ لغَيرِه أن يَقعُدَ فيه
[3188] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/160)، ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 350)، ((فتح القريب)) للفيومي (12/266). .