المَطلَبُ الأوَّلُ: كُلُّ حَقٍّ ماليٍّ وجَبَ بسَبَبَينِ يَختَصَّانِ به، أو وجَبَ بسَبَبٍ وشَرطٍ، فإنَّه جائِزٌ تَعجيلُه بَعدَ وُجودِ أحَدِ السَّبَبَينِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ حَقٍّ ماليٍّ وجَبَ بسَبَبَينِ يَختَصَّانِ به، أو وجَبَ بسَبَبٍ وشَرطٍ، فإنَّه جائِزٌ تَعجيلُه بَعدَ وُجودِ أحَدِ السَّبَبَينِ"
[3189] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/222). ، وصيغةِ: "ما كان له سَبَبانِ فأكثَرُ، أو شَرطٌ وسَبَبٌ، فيَجوزُ تَقديمُه بَعدَ وُجودِ أحَدِ سَبَبَيه، أو بَعدَ سَبَبِه وقَبلَ شَرطِه"
[3190] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (2/167). ، وصيغةِ: "كُلُّ حَقٍّ ماليٍّ وجَبَ بسَبَبَينِ يَختَصَّانِ به، فإنَّه جائِزٌ تَعجيلُه بَعدَ وُجودِ أحَدِهما"
[3191] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/277). ، وصيغةِ: "كُلُّ حَقٍّ ماليٍّ يَجِبُ بسَبَبَينِ يَختَصَّانِ به؛ فجازَ تَقديمُه على أحَدِهما"
[3192] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (15/6). ، وصيغةِ: "ما يَجِبُ بسَبَبَينِ يَختَصَّانِ به، فيَجوزُ بَعدَ وُجودِ أحَدِهما، وتَقديمه على الآخَرِ، إذا كان ماليًّا"
[3193] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/197). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.اشتَهَر استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ كُلَّ حَقٍّ مُتَعَلِّقٍ بالمالِ وجَبَ بسَبَبَينِ يَختَصَّانِ به -كالزَّكاةِ تَجِبُ بسَبَبَينِ: النِّصابِ والحَولِ- فإنَّه يَجوزُ تَعجيلُه بَعدَ وُجودِ أحَدِ السَّبَبَينِ، وكَذلك إذا وجَبَ بسَبَبٍ وشَرطٍ، فإنَّه يَجوزُ تَعجيلُه بَعدَ وُجودِ السَّبَبِ. أمَّا ما وجَبَ بثَلاثةِ أسبابٍ فلا يَجوزُ تَقديمُه على اثنَينِ مِنها، ويَجوزُ تَقديمُه على الثَّالِثِ. وما وجَبَ بسَبَبٍ واحِدٍ لا يَجوزُ تَقديمُه عليه؛ لأنَّ المُسَبَّبَ يَستَدعي وُجودَ السَّبَبِ.
وفي نَصِّ هذه القاعِدةِ ثَلاثةُ قُيودٍ، وهيَ:
1- (حَقٌّ ماليٌّ) وذلك احتِرازًا مِن الحَقِّ البَدَنيِّ، فتَخرُجُ حُقوقُ الأبدانِ عن القاعِدةِ؛ لأنَّه إمَّا مُؤَقَّتٌ كالصَّلاةِ فلا يُقدَّمُ على وقتِه، وجَمعُ التَّقديمِ ليس بتَقديمٍ على الوقتِ، بَل هو الوقتُ في تلك الحالةِ؛ ولِهذا يَقَعُ أداءً.
وإمَّا غَيرُ مُؤَقَّتٍ، كالصِّيامِ في الكَفَّاراتِ، فالصَّحيحُ أنَّه لا يَجوزُ تَقديمُه على سَبَبِه، وقيلَ: يَجوزُ التَّكفيرُ بالصَّومِ قَبلَ الحِنثِ.
2- (يَجِبُ بسَبَبَينِ)، وذلك احتِرازًا مِن الحُقوقِ التي تَجِبُ بسَبَبٍ واحِدٍ، كَزَكاةِ المَعدِنِ والرِّكازِ مِمَّا لا يُشتَرَطُ فيه الحَولُ، فلا يَجوزُ تَقديمُها على الحَولِ. وكَذلك كَفَّارةُ المُجامِعِ لا تَجوزُ قَبلَ الوِقاعِ. وكَذا لَو نَذَرَ أُضحيةً فلا يَجوزُ ذَبحُها قَبلَ وقتِها.
3- (يَختَصَّانِ بهـ) وذلك احتِرازًا مِن شَرطِ الحُرِّيَّةِ والإسلامِ؛ فإنَّهما لا يَختَصَّانِ بما يَجِبُ فيه؛ لأنَّهما -وإن كانا سَبَبَينِ تَجِبُ الزَّكاةُ بهما- فلا يَختَصَّانِ بالزَّكاةِ، كَزَكاةِ الفِطرِ فلَيسَ للإسلامِ والحُرِّيَّةِ بها خُصوصيَّةٌ؛ لأنَّ ذلك مُعتَبَرٌ في غَيرِ الزَّكاةِ
[3194] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (3/379)، ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/222)، ((المنثور)) للزركشي (2/195 - 198)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/277)، ((القواعد)) للحصني (2/166)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 402). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والمَعقولِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ سَمُرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((وإذا حَلَفتَ على يَمينٍ، فرَأيتَ غَيرَها خَيرًا مِنها، فكَفِّرْ عن يَمينِكَ، وأْتِ الذي هو خَيرٌ )) [3195] أخرجه البخاري (6622)، ومسلم (1652). ، وفي رِوايةٍ:
((ثُمَّ ائتِ الذي هو خَيرٌ)) [3196] أخرجها أبو داود (3278)، والنسائي (3783)، وأحمد (20628). صحَّحها الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3278)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (20628)، وصحَّح إسنادَها محمد ابن عبد الهادي في ((المحرر في الحديث)) (378)، والزيلعي في ((نصب الراية)) (3/298)، وابن حجر في ((بلوغ المرام)) (410)، وقال ابن القيم في ((زاد المعاد)) (3/495): أصلُه في الصَّحيحينِ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بتَكفيرِ اليَمينِ قَبلَ حُصولِ الحِنثِ، فيُؤخَذُ مِنه عُمومُ جَوازِ تَعجيلِ الحَقِّ الماليِّ بَعدَ وُجودِ أحَدِ سَبَبَي هذا الحَقِّ
[3197] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 610)، ((سبل السلام)) للصنعاني (4/ 548)، ((معلمة زايد)) (13/518). .
2- مِنَ المَعقولِ:وهو أنَّ الحُكمَ هنا له استِنادٌ في وُجودِه إلى السَّبَبِ، وهذا السَّبَبُ مُرَكَّبٌ مِن شَيئَينِ، وقد وُجِدَ جُزؤُه وهو أحَدُ السَّبَبَينِ، والآخَرُ في حُكمِ المَوجودِ؛ فلِذا جازَ التَّعجيلُ، فمَثَلًا كُلُّ مالٍ وجَبَت فيه الزَّكاةُ بالنِّصابِ والحَولِ، إذا مَلَكَ النِّصابَ جازَ له تَعجيلُ الزَّكاةِ قَبلَ مُضيِّ الحَولِ، ولا يَجوزُ قَبلَ كَمالِ النِّصابِ. كما لا يَجوزُ تَعجيلُ زَكاةِ عامَينِ؛ لأنَّه لَم يَتَحَقَّقْ وُجودُ واحِدٍ مِن السَّبَبَينِ بالنِّسبةِ إلى العامِ الثَّاني
[3198] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (3/378)، ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/223)، ((المنثور)) للزركشي (2/197)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/278)، ((القواعد)) للحصني (2/167)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 402). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.مِن الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- زَكاةُ الفِطرِ يَجوزُ تَعجيلُها في جَميعِ رَمَضانَ؛ لأنَّها وجَبَت بأمرَينِ يَختَصَّانِ بها، وهما: إدراكُ رَمَضانَ والفِطرُ، ولا يَجوزُ قَبلَ رَمَضانَ؛ للتَّقدُّمِ على السَّبَبَينِ
[3199] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/223)، ((المنثور)) للزركشي (2/198)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/278)، ((القواعد)) للحصني (2/169)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 402). .
2- إراقةُ دَمِ التَّمَتُّعِ بَعدَ التَّحَلُّلِ مِن العُمرةِ وقَبلَ الشُّروعِ في الحَجِّ، فيه قَولانِ: أحَدُهما الجَوازُ؛ لأنَّه حَقٌّ ماليٌّ تَعَلَّقَ بسَبَبَينِ، وهما: الفَراغُ مِن العُمرةِ، والشُّروعُ في الحَجِّ، فجازَ التَّقديمُ على أحَدِهما، فإذا وُجِدَ أحَدُهما جازَ إخراجُه، كالزَّكاةِ والكَفَّارةِ
[3200] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/223)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/279). .
3- كَفَّارةُ القَتلِ تَجوزُ بَعدَ الجَرحِ وقَبلَ المَوتِ، وإن لَم يَكُنْ جَرحُه لَم يَجُزْ ذلك
[3201] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/223)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/279). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.فائِدةٌ:ذَكَرَ ابنُ رَجَبٍ في قَواعِدِه قاعِدةً شَبيهةً بهذه القاعِدةِ، وهيَ أعَمُّ مِنها؛ إذ تَشمَلُ العِباداتِ كُلَّها سَواءٌ كانت ماليَّةً أم غَيرَها، فقال: (العِباداتُ كُلُّها -سَواءٌ كانت بَدَنيَّةً، أو ماليَّةً، أو مُرَكَّبةً مِنهما- لا يَجوزُ تَقديمُها على سَبَبِ وُجوبِها، ويَجوزُ تَقديمُها بَعدَ سَبَبِ الوُجوبِ وقَبلَ الوُجوبِ، أو قَبلَ شَرطِ الوُجوبِ. ويَتَفَرَّعُ على ذلك مَسائِلُ كَثيرةٌ)
[3202] يُنظر: ((القواعد)) (1/70). .