الفَرعُ الأوَّلُ: الحُقوقُ لا تُؤَخَّرُ إلَّا بأسبابٍ ظاهرةِ الصِّحَّةِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَت القاعِدةُ بهذا المَعنى بصيَغٍ كَثيرةٍ، مِنها: "تَأخيرُ الحَقِّ عن مُستَحِقِّه لا يَجوزُ مَعَ حاجَتِه إلَيه إلَّا بإذنِه"
[3203] يُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (4/126). ، وصيغةِ: "الأعذارُ تُؤَثِّرُ في تَأخيرِ الحُقوقِ لا في إسقاطِها"
[3204] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (6/3070). ، وصيغةِ: "لا يَجوزُ تَأخيرُ الحَقِّ بالتَّطويلِ مَعَ القُدرةِ على التَّعجيلِ"
[3205] يُنظر: ((الغاية)) للعز بن عبد السلام (7/444). ، وصيغةِ: "تَأخيرُ الحُقوقِ بَعدَ ظُهورِها إماتةٌ لَها وتَغريرٌ بها"
[3206] يُنظر: ((الخراج)) لقدامة بن جعفر (ص: 41). ، وصيغةِ: "تَأخيرُ الحَقِّ مِن ذي الحَقِّ غَيرُ سائِغٍ"
[3207] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (3/105). ، وصيغةِ: "تَأخيرُ الحَقِّ الواجِبِ على الفَورِ لا يَجوزُ"
[3208] يُنظر: ((حاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب)) (2/166). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.إذا تَعَلَّقَت الحُقوقُ بوقتٍ فتَعجيلُها أفضَلُ؛ مُبادَرةً للِامتِثالِ، بَل يَجِبُ إيصالُ الحَقِّ إلى مُستَحِقِّه على الفَورِ، وإن لَم يَكُنِ المُستَحِقُّ عليه آثِمًا؛ دَفعًا لمَفسَدةِ تَأخُّرِ الحَقِّ عن مُستَحِقِّه؛ لأنَّ تَأخيرَ الحَقِّ عن مُستَحِقِّه لا يَجوزُ مَعَ حاجَتِه إلَيه إلَّا بإذنِه؛ حَيثُ إنَّ في تَأخيرِ الحَقِّ ضَرَرًا. فتَأخيرُ الحُقوقِ لا يَجوزُ مَعَ القُدرةِ، وهذا يَشمَلُ حُقوقَ اللهِ تَعالى كَتَركِ الصَّلاةِ وصَومِ رَمَضانَ وتَأخيرِ الزَّكاةِ، كما يَشمَلُ حُقوقَ النَّاسِ الواجِبةَ، كالدُّيونِ الحالَّةِ وغَيرِها، فتَأخيرُها مِن غَيرِ عُذرٍ شَرعيٍّ مَفسَدةٌ مُحَرَّمةٌ، لَكِنَّه يَجوزُ بأسبابٍ ظاهرةِ الصِّحَّةِ كالإكراه. وقد يَتَرَجَّحُ التَّأخيرُ لعَوارِضَ: كَحيازةِ فضيلةٍ أُخرى كَتَيَقُّنِ وُجودِ الماءِ آخِرَ الوقتِ أو غَيرِ ذلك. والعَوارِضُ والأعذارُ إنَّما تُؤَثِّرُ في تَأخيرِ الحُقوقِ لا في إسقاطِها؛ لأنَّ الحُقوقَ لا تَسقُطُ إلَّا بإسقاطِ أصحابِها
[3209] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (6/3070)، ((الكافي)) (2/237)، ((المغني)) (10/248) كلاهما لابن قدامة، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/103) (2/44)، ((الاختيار)) للموصلي (4/126)، ((المنثور)) للزركشي (2/368)، ((الاختيارات الفقهية)) لمحمد آل الشيخ (ص: 264). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (كُلُّ حَقٍّ ماليٍّ وجَبَ بسَبَبَينِ يَختَصَّانِ به، أو وجَبَ بسَبَبٍ وشَرطٍ، فإنَّه جائِزٌ تَعجيلُه بَعدَ وُجودِ أحَدِ السَّبَبَينِ)؛ لأنَّ تَعجيلَ أداءِ الحُقوقِ في وقتِها هو الأفضَلُ للمُبادَرةِ إلى الامتِثالِ؛ لأنَّ الأوقاتَ أسبابٌ لَها، ولا تَتَأخَّرُ المُسَبَّباتُ عن أسبابِها إلَّا بأسبابٍ ظاهرةِ الصِّحَّةِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ:
1- من القُرآنِ:- قال اللهُ تعالى:
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَدُلُّ الآيةُ على أنَّه لا يَجوزُ تَأخيرُ دَفعِ الزَّكاةِ عن وقتِ استِحقاقِها عِندَ القُدرةِ، فيَجِبُ إخراجُها على الفَورِ، وهذا في زَكاةِ الزُّروعِ ويُلحَقُ بها غَيرُها
[3210] يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/408)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (10/9). .
- وقال اللهُ سُبحانَه:
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه:
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ يُفيدُ أنَّ تَأخيرَ الحَقِّ بالعُذرِ أمرٌ مَشروعٌ
[3211] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/95)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/461). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَطلُ الغَنيِّ ظُلمٌ، فإذا أُتبِعَ أحَدُكُم على مَليءٍ فليَتبَعْ )) [3212] أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564). .
وَجهُ الدَّلالةِ:دَلَّ الحَديثُ على عَدَمِ جَوازِ تَأخيرِ الحُقوقِ؛ لأنَّ مَطلَ الغَنيِّ ظُلمٌ؛ إذ المَطلُ تَأخيرُ الحَقِّ مَعَ التَّمَكُّنِ مِن أدائِه؛ فلا يُعذَرُ بتَأخيرِ الحَقِّ للمُستَحِقِّ
[3213] يُنظر: ((أحكام القرآن للشافعي)) للبيهقي (1/204)، ((البرهان)) لأبي المعالي الجويني (1/174)، ((الغاية)) للعز بن عبد السلام (5/299). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- لا يَحِلُّ للإنسانِ تَأخيرُ الزَّكاةِ عن وقتِها إذا وجَبَت بتَمامِ الحَولِ مَعَ القُدرةِ، بَل يُخرِجُها على الفَورِ إذا كان مُتَمَكِّنًا مِن ذلك، وقد يَجوزُ تَأخيرُها لسَبَبٍ ظاهرِ الصِّحَّةِ، وذلك كاستِحبابِ تَأخيرِ زَكاةِ الفِطرِ ليَومِ العيدِ قَبلَ الصَّلاةِ، مَعَ أنَّها تَجِبُ بالغُروبِ
[3214] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/368)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/408)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (18/349). .
2- دَمُ التَّمَتُّعِ يَجِبُ بالإحرامِ بالحَجِّ، ويُستَحَبُّ له تَأخيرُه إلى يَومِ النَّحرِ، وكَذلك دَمُ القِرانِ. وكَذلك أفعالُ يَومِ النَّحرِ كالحَلقِ وطَوافِ الإفاضةِ ورَميِ جَمرةِ العَقَبةِ، يَدخُلُ وقتُها بنِصفِ اللَّيلِ، ويُستَحَبُّ تَأخيرُها ليَومِ النَّحرِ
[3215] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/368). .
3- يَنبَغي أن يُبادِرَ القاضي بَعدَ الحَجرِ على المُفلِسِ ببَيعِ مالِه وقَسمِه بَينَ الغُرَماءِ على نِسبةِ دُيونِهم؛ لأنَّ المُفلِسَ يَتَضَرَّرُ بطولِ الحَجرِ، والغَريمُ بتَأخُّرِ الحَقِّ، لَكِن لا يُفرِطُ في الاستِعجالِ؛ كَي لا يُطمَعَ فيه بثَمَنٍ بَخسٍ، بَل يَتَّبِعُ العُرفَ في ذلك، وهذه المُبادَرةُ مُستَحَبَّةٌ
[3216] يُنظر: ((النجم الوهاج)) للدميري (4/365)، ((بداية المحتاج)) لابن قاضي شهبة (2/167). .