موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: مَن أنكَرَ حَقًّا لغَيرِه ثُمَّ أقَرَّ به قُبِلَ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "مَن أنكَرَ حَقًّا لغَيرِه ثُمَّ أقَرَّ به قُبِلَ" [3255] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/347)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/79 و499)، ((القواعد)) للحصني (4/173)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 466). ، وصيغةِ: "مَن أنكَرَ شَيئًا ثُمَّ أقَرَّ به قُبِلَ منه" [3256] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/66). ، وصيغةِ: "مَن جَحَدَ حَقًّا ثُمَّ أقَرَّ به قُبِلَ" [3257] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/275). ، وصيغةِ: "مَن جَحَدَ حَقًّا عليه ثُمَّ أقَرَّ به لَم يَسقُطْ" [3258] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/263). ، وصيغةِ: "مَن أنكَرَ حَقًّا لغَيرِه ثُمَّ اعتَرَفَ به قُبِلَ" [3259] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/198). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
اشتَهَر استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ مَن جَحَدَ حَقًّا واجِبًا لغَيرِه مِنَ العِبادِ وأنكَرَه، ثُمَّ رَجَعَ عن إنكارِه واعتَرَفَ بهذا الحَقِّ، فإنَّ الصَّحيحَ أنَّه يُقبَلُ اعتِرافُه بالحَقِّ لصاحِبِه بَعدَ تَقدُّمِ إنكارِه، ويُعمَلُ بإقرارِه، وتَتَرَتَّبُ عليه آثارُه [3260] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (19/117)، ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/347)، ((المنثور)) للزركشي (3/198)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/79). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحَقُّ لا يَثبُتُ بمُجَرَّدِ الدَّعوى)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ الإقرارَ مِن أقوى الأدِلَّةِ، فمَن أقَرَّ بالحَقِّ قُبِلَ قَولُه؛ لأنَّ الدَّعوى حينَئِذٍ تَأيَّدَت بالإقرارِ، فيَثبُتُ الحَقُّ بها؛ فهيَ لَيسَت مُجَرَّدَ دَعوى.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الحَقُّ لا يَثبُتُ بمُجَرَّدِ الدَّعوى).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا ادَّعَتِ المَرأةُ النِّكاحَ، وأنكَرَ الزَّوجُ أصلَ النِّكاحِ ثُمَّ اعتَرَفَ به، فهَل يُقبَلُ اعتِرافُه، أم يَمتَنِعُ عليه إثباتُ النِّكاحِ بَعدَ تَقديمِ إنكارِه؟ فيه خِلافٌ؛ فإن قُلنا بأنَّ اعتِرافَه بَعدَ إنكارِه مَقبولٌ، ولَه -إذا اعتَرَفَ- أن يَغشاها، فالدَّعوى لا تَبطُلُ بإنكارِه إذا سَمِعنا الدَّعوى في سُكوتِه، وتَتَرَتَّبُ على الدَّعوى حُقوقُها الماليَّةُ. وإن قُلنا: لا يُقبَلُ اعتِرافُه، فلا سَبيلَ إلى إثباتِ النِّكاحِ عليه فيما يَتَعَلَّقُ به [3261] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (19/117). .
2- إذا قال الزَّوجُ المُطَلِّقُ: رَجَعتِ قَبلَ انقِضاءِ العِدَّةِ، فقالت: انقَضَت عِدَّتي قَبلَ أن يُراجِعني، ثُمَّ صَدَّقَتِ الزَّوجَ، قُبِلَ رُجوعُها في الأصَحِّ؛ لأنَّ مَن أنكَرَ حَقًّا لغَيرِه ثُمَّ اعتَرَفَ به، قُبِلَ؛ لأنَّ الزَّوجَ أرادَ استِبقاءَ مِلكِ النِّكاحِ، ويُحتَمَلُ في الدَّوامِ ما لا يُحتَمَلُ في الابتِداءِ [3262] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/198)، ((القواعد)) للحصني (4/173). .
3- إذا ادَّعى عليه آخَرُ أنَّه قدِ اغتَصَبَه أرضًا أو سَيَّارةً أو مالًا، فأنكَرَ ذلك، ثُمَّ أقَرَّ واعتَرَفَ بما كان أنكَرَه، فإنَّ إقرارَه واعتِرافَه مَقبولٌ، ويُطالَبُ برَدِّ ما اغتَصَبَه [3263] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/949). .
4- إذا جَحَدَ المُضارِبُ المُضارَبةَ في صِحَّتِه أو في مَرَضِه ثُمَّ أقَرَّ بها فهيَ لازِمةٌ دَينًا في مالِه. وكَذلك لَو جَحَدَ شَيئًا مِنَ الرِّبحِ ثُمَّ أقَرَّ به ثُمَّ قال: لَم يَصِلْ إلَيَّ، ضَمِنَ ما جَحَدَ مِنَ الرِّبحِ وإن كان دَينًا [3264] يُنظر: ((الأصل)) للشيباني (4/284). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها:
1- إذا أنكَرَتِ المَرأةُ الزَّوجيَّةَ ثُمَّ أقَرَّت، كما إذا ادَّعى رَجُلٌ زَوجيَّةَ امرَأةٍ، فقالت: زَوَّجَني الوليُّ بغَيرِ إذني، ثُمَّ صَدَّقَته، فلا يُقبَلُ مِنها في الأصَحِّ؛ لأنَّ ابتِداءَ النِّكاحِ تُراعى فيه الشُّروطُ، بخِلافِ دَوامِه [3265] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (1/347)، ((المنثور)) للزركشي (3/198)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/499)، ((القواعد)) للحصني (4/173). .
2- إذا ادَّعَتِ المَرأةُ الطَّلاقَ على الزَّوجِ، فأنكَرَ ونَكَلَ، فحَلَفَت عليه، ثُمَّ رَجَعَت: لَم يُقبَلْ رُجوعُها؛ لاستِنادِ قَولِها إلى الإثباتِ [3266] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/199). .
3- إذا اختَلَفَ الوكيلُ والموكِّلُ في أصلِ الوكالةِ فالقَولُ قَولُ مَن يُنكِرُها؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُها، وإنِ اختَلَفا في دَفعِ المالِ إلى الوكيلِ فالقَولُ قَولُه لذلك، فإن أنكَرَه ثُمَّ اعتَرَفَ به، ثُمَّ ادَّعى تَلَفَه أو رَدَّه، لَم يُقبَلْ؛ لأنَّ خيانَتَه ثَبَتَت بجَحدِه [3267] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/144). .

انظر أيضا: