موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الخامِسُ: الشُّبهةُ تَكفي لإثباتِ العِباداتِ كما تَكفي لدَرءِ العُقوباتِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الشُّبهةُ تَكفي لإثباتِ العِباداتِ كما تَكفي لدَرءِ العُقوباتِ" [3029] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (1/260)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (2/26). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ وُجودَ الشُّبهةِ في أمرٍ مِنَ الأُمورِ أنَّه أمرٌ دينيٌّ يَتَعَلَّقُ بأثَرِه ثَوابٌ وعِقابٌ، يَكفي في إثباتِ كَونِه أمرًا تَعَبُّديًّا؛ ولِذلك تَسقُطُ الحُدودُ بالشُّبُهاتِ؛ لأنَّها أمرٌ تَعبُّديٌّ، فالمُرادُ بالعِباداتِ هنا الأُمورُ الدِّينيَّةُ عُمومًا، لا خُصوصُ العِباداتِ المَحضةِ، كالصَّلاةِ مَثَلًا.
وليس المُرادُ أنَّ الشُّبهةَ تُثبِتُ أصلَ العِبادةِ؛ لأنَّ العِباداتِ تَوقيفيَّةٌ لا يُشرَعُ فيها إلَّا ما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، وإنَّما تَثبُتُ العِبادةُ بنَصٍّ مِنَ الكِتابِ أوِ السُّنَّةِ أو إجماعٍ قَطعيٍّ [3030] يُنظر: ((بريقة محمودية)) للخادمي (2/26)، ((مجموع فتاوى ومقالات ابن باز)) (13/22)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (5/62). . وسيَتبَيَّنُ ذلك مِن خِلالِ أمثِلةِ القاعِدةِ.
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (الشُّبهةُ كالحَقيقةِ فيما يَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ إثباتَ الأمرِ الدِّينيِّ المُتَعَبَّدِ به يَكفي فيه الشُّبهةُ، فيَثبُتُ بها كما يَثبُتُ بالحَقيقةِ؛ إذِ الشُّبهةُ كالحَقيقةِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الشُّبهةُ كالحَقيقةِ فيما يَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا استَهَلَّ المَولودُ صارِخًا وثَبَتَ استِهلالُه بشَهادةِ امرَأةٍ واحِدةٍ، ثُمَّ ماتَ، غُسِّل وصُلِّي عليه ووجَبَت ديَتُه وميراثُه؛ لأنَّه كالكَبيرِ في ميراثِه وإيجابِ القَوَدِ على قاتِلِه، فوجَبَ أن يَكونَ كالكَبيرِ في الصَّلاةِ عليه [3031] يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (1/351)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/31)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (5/62). .
2- القَتلُ بالمُثَقَّلِ تَجِبُ به الكَفَّارةُ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ فيه شُبهةَ الخَطَأِ مِن جِهةِ أنَّ المُثَقَّلَ ليس آلةً للقَتلِ خِلقةً بَل للتَّأديبِ، وفي التَّأديبِ جِهةٌ مِنَ الإباحةِ، والشُّبهةُ تَكفي لإثباتِ العِباداتِ كما تَكفي لدَرءِ العُقوباتِ [3032] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (1/260). .
3- النِّكاحُ الفاسِدُ إذا قارَنَه الوطءُ ثَبَتَت به الحُرمةُ مِن طَرَفِ المَرأةِ على أبيِ المُتَزَوِّجِ وابنِه، وتَحريمُ أُمِّها وابنَتِها عليه؛ لأنَّه نِكاحٌ عُقِدَ على غَيرِ وجهٍ حَلالٍ قد وُطِئَ فيه وإن كان فاسِدًا، كما أنَّ الفاسِدَ مِنَ النِّكاحِ مُعتَبَرٌ بالجائِزِ في حُكمِ النَّسَبِ. فالنِّكاحُ الفاسِدُ إذا اتَّصَلَ به الدُّخولُ وجَبَ فيه الصَّداقُ، وثَبَتَ به النَّسَبُ ووُجوبُ العِدَّةِ، وكُلُّ ذلك مِنَ الأُمورِ الدِّينيَّةِ المُتَعَبَّدِ بها النَّاسُ [3033] يُنظر: ((شرح المختصر الكبير)) للأبهري (1/625)، ((المبسوط)) للسرخسي (17/156). ويُنظر أيضًا: ((الأوسط)) لابن المنذر (7/235)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/242)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (5/62). .

انظر أيضا: