موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: الحُدودُ تَسقُطُ أو تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ، بخِلافِ الحُقوقِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الحُدودُ تَسقُطُ أو تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ، بخِلافِ الحُقوقِ" [2992] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/23). ، وصيغةِ: "الحُدودُ تَسقُطُ بالشُّبُهاتِ" [2993] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/339)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/122)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 122). ، وصيغةِ: "الحُدودُ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ" [2994] يُنظر: ((مختصر المزني)) (1/711)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (5/306)، ((الإقناع)) للماوردي (ص: 203)، ((التهذيب)) للبغوي (2/34)، ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد الجد (3/251)، ((شرح التلقين)) للمازري (2/567)، ((المغني)) لابن قدامة (6/352)، ((الممتع)) لابن المنجى (4/226). ، وصيغةِ: "ما يَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ لا يُستَوفى مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبهةِ" [2995] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/144). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الحُدودَ والقِصاصَ تَسقُطُ بالشُّبُهاتِ ما أمكَنَ، وما يَسقُطُ بالشُّبُهاتِ لا يَجوزُ استيفاؤُه مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبهةِ، بخِلافِ سائِرِ الحُقوقِ؛ فإنَّها تَثبُتُ مَعَ وُجودِ الشُّبُهاتِ ولا تُدرَأُ بها. واعتِبارُ الشُّبهةِ هنا إنَّما يَكونُ بجَعلِ السَّبَبِ في الموجِبِ للحَدِّ غَيرَ موجِبٍ، وقد أُمِرنا بدَرءِ الحُدودِ بالشُّبُهاتِ؛ لأنَّ الحُدودَ إن وقَعَ فيها غَلَطٌ لا يُمكِنُ تَدارُكُه، فأمَّا المالُ فإنَّما يَثبُتُ مَعَ الشُّبُهاتِ، وإذا وقَعَ الغَلَطُ فيه أمكَن تَدارُكُه، وجَميعُ أجناسِ حُقوقِ العِبادِ مِمَّا لا يَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ [2996] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/338)، ((المبسوط)) للسرخسي (16/88) و(20/78) و(30/149)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/81)، ((المغني)) لابن قدامة (12/362)، ((العناية)) للبابرتي (5/415)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/260). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (الشُّبهةُ كالحَقيقةِ فيما يَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ)؛ لأنَّ إعمالَ الشُّبُهاتِ في دَرءِ الحُدودِ هو تَنزيلٌ لَها مَنزِلةَ الحَقائِقِ؛ لأنَّ الشُّبهةَ كالحَقيقةِ في هذا البابِ، بخِلافِ الحُقوقِ؛ فإنَّها تَثبُتُ مَعَ الشُّبُهاتِ ولا تَندَرِئُ بها؛ لأنَّه إن وقَعَ فيها خَطَأٌ يُمكِنُ تَدارُكُه بالضَّمانِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ المُنذِرِ [2997] قال: (أجمَعوا على أنَّ دَرءَ الحَدِّ بالشُّبُهاتِ). ((الإجماع)) (ص: 118). ، وابنُ الهُمامِ [2998] قال: (لا شَكَّ أنَّ هذا الحُكمَ -وهو دَرءُ الحَدِّ- مُجمَعٌ عليهـ). ((فتح القدير)) (5/217). ، والبابَرتيُّ [2999] قال: (الحُدودُ تَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ بالاتِّفاقِ). ((العناية)) (7/504). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الشُّبهةُ كالحَقيقةِ فيما يَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا تجارَح رَجُلانِ وزَعَم كُلُّ واحِدٍ مِنهما أنَّه جَرَح الآخَرَ دِفاعًا عن نَفسِه، وجَبَ على كُلِّ واحِدٍ مِنهما ضَمانُ صاحِبِه؛ لأنَّ الجَرحَ قد وُجِدَ، وما يَدَّعيه مِنَ القَصدِ لم يَثبُتْ، فوجَبَ الضَّمانُ، والقَولُ قَولُ كُلِّ واحِدٍ مِنهما مَعَ يَمينِه في نَفيِ القِصاصِ؛ لأنَّ ما يَدَّعيه مُحتَمِلٌ، فيَندَرِئُ به القِصاصُ؛ لأنَّه يَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ [3000] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/11). .
2- إذا دَخَلَ الباغي عَسكَرَ أهلِ العَدلِ بأمانٍ، فقَتَلَه رَجُلٌ مِن أهلِ العَدلِ، فلا قِصاصَ عليه، وإنَّما عليه الدِّيةُ؛ لعِصمَتِه، كما لو قَتَلَ المُسلِمُ مُستَأمَنًا في دارِنا، وهذا لبَقاءِ شُبهةِ الإباحةِ في دَمِه حينَ كان دُخولُه بأمانٍ، فكان يَجِبُ تَبليغُه مَأمَنَه، فالقِصاصُ يَندَرِئُ بالشُّبُهاتِ [3001] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/133). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ التي لا يَسقُطُ فيها الحَدُّ مَعَ ادِّعاءِ الشُّبهةِ، مِنها:
مَن تَزَوَّجَ امرَأةَ أبيه وجَبَ الحَدُّ عليه، ومَنِ ادَّعى أنَّ هذا النِّكاحَ شُبهةٌ فأسقَطَ مِن أجلِها الحَدَّ، فقد أبعَدَ؛ لأنَّ الشُّبهةَ إنَّما تَكونُ في أمرٍ يُشبِهُ الحَلالَ مِن بَعضِ الوُجوهِ، وذَواتُ المَحارِمِ لا تَحِلُّ بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ، ولا في حالٍ مِنَ الأحوالِ، وإنَّما هو زِنًا مَحضٌ وإن لُقِّبَ بالنِّكاحِ، كَمَنِ استَأجَرَ أَمَةً فزَنى بها، فهو زِنًا، وإن لُقِّبَ باسمِ الإجارةِ، فذلك لا يُسقِطُ عنه الحَدَّ [3002] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/329)، ((ذخيرة العقبى)) للأثيوبي (27/372). .

انظر أيضا: