الفَرعُ الأوَّلُ: تَصَرُّفُ المَريضِ لا يَصِحُّ مَعَ التُّهمةِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "تَصَرُّفُ المَريضِ لا يَصِحُّ مَعَ التُّهمةِ"
[2953] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3209). ، وصيغةِ: "تَصَرُّفُ المَريضِ إنَّما يُرَدُّ للتُّهمةِ"
[2954] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (8/388)، ((نتائج الأفكار)) لقاضي زاده (8/388). ، وصيغةِ: "تَصَرُّفُ المَريضِ في مَرَضِ المَوتِ فيما يحتاجُ إليه حاجةً أصليَّةً نافِذٌ"
[2955] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/133). ، وصيغةِ: "تَبرُّعُ الوالِدِ على وَلَدِه في مَرَضِه باطِلٌ"
[2956] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/228). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ تَصَرُّفَ المَريضِ إنَّما يُرَدُّ للتُّهمةِ لا لخَلَلٍ فيه، فلا يَصِحُّ إذا تَمَكَّنَتِ التُّهمةُ في تَصَرُّفِه، والمانِعُ مِن تَصَرُّفِ المَريضِ هو تَعَلُّقُ حَقِّ الورَثةِ أوِ الغُرَماءِ؛ ولِذلك فإنَّ تَصَرُّفَه فيما يَحتَمِلُ النَّقضَ بَعدَ نُفوذِه يَكونُ مَحكومًا بصِحَّتِه، ثُمَّ يُنقَضُ بَعدَ مَوتِه ما يَتَعَذَّرُ تَنفيذُه، والمَقصودُ مِن هذا النَّقضِ دَفعُ الضَّرَرِ عنِ الورَثةِ. كما أنَّ تَصَرُّفَ المَريضِ فيما يَلحَقُه مِنَ التُّهمةِ حالَ المَرَضِ كَتَصَرُّفِه بَعدَ المَوتِ، ومَعلومٌ أنَّه لو أسقَطَ حَقَّه بَعدَ مَوتِه لم يَسقُطْ، كذلك إذا أسقَطَه حالَ المَرَضِ.
ويُعتَبَرُ في المَريضِ الذي هذه أحكامُه شَرطانِ:
1- أن يَتَّصِلَ بمَرَضِه المَوتُ، ولَو تعافى مِن مَرَضِه الذي أعطى فيه، ثُمَّ ماتَ بَعدَ ذلك، فحُكمُ عَطيَّتِه حُكمُ عَطيَّةِ الصَّحيحِ؛ لأنَّه ليس بمَرَضِ المَوتِ.
2- أن يَكونَ مَخوفًا. والأمراضُ على أربَعةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: غَيرُ مَخوفٍ، مِثلُ وَجَعِ العَينِ، والضِّرسِ، والصُّداعِ اليَسيرِ، وحُمَّى ساعةٍ، فهذا حُكمُ صاحِبِه حُكمُ الصَّحيحِ؛ لأنَّه لا يُخافُ مِنه في العادةِ.
الثَّاني: الأمراضُ المُمتَدَّةُ، كالجُذامِ، والسُّلِّ في ابتِدائِه، فهذا الضَّربُ إن أضنى صاحِبَها على فِراشِه فهيَ مَخوفةٌ، وإن لم يَكُنْ صاحِبَ فِراشٍ، بَل كان يَذهَبُ ويَجيءُ، فعَطاياه مِن جَميعِ المالِ.
الثَّالِثُ: مَن تَحَقَّق تَعجيلُ مَوتِه، فيُنظَرُ فيه؛ فإن كان عَقلُه قدِ اختَلَّ فهذا لا حُكمَ لكَلامِه ولا لعَطيَّتِه؛ لأنَّه لا يبقى له عَقلٌ ثابِتٌ، وإن كان ثابِتَ العَقلِ، كَمَنِ اشتَدَّ مَرَضُه ولَم يَتَغَيَّرْ عَقلُه، صَحَّ تَصَرُّفُه وتَبَرُّعُه، وكان تَبَرُّعُه مِنَ الثُّلثِ.
الرَّابعُ: مَرَضٌ مَخوفٌ، لا يَتَعَجَّلُ مَوتُ صاحِبِه يَقينًا، لَكِنَّه يخافُ ذلك، كَمَرَضِ القَلبِ والرِّئةِ؛ فهذه مَخوفةٌ.
وما أَشكلَ أمرُه مِنَ الأمراضِ فإنَّه يُرجَعُ فيه إلى قَولِ أهلِ المَعرِفةِ، وهمُ الأطِبَّاءُ؛ لأنَّهم أهلُ الخِبرةِ بذلك والتَّجرِبةِ والمَعرِفةِ، ولا يُقبَلُ إلَّا قَولُ طَبيبَينِ مُسلِمَينِ ثِقَتَينِ بالغَينِ؛ لأنَّ ذلك يَتَعَلَّقُ به حَقُّ الوارِثِ وأهلِ العَطايا، فلَم يُقبَلْ فيه إلَّا ذلك
[2957] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3209) و(10/4952)، ((المبسوط)) للسرخسي (23/130)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/340)، ((المغني)) لابن قدامة (8/489)، ((نتائج الأفكار)) لقاضي زاده (8/388)، ((تكملة المطيعي للمجموع)) (15/443). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (التُّهمةُ تَقدَحُ في التَّصَرُّفاتِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ تَصَرُّفَ المَريضِ تَتَطَرَّقُ إليه التُّهمةُ، فكان باطِلًا؛ لأنَّ التُّهمةَ إذا تَمَكَّنَت فإنَّها تَقدَحُ في التَّصَرُّفاتِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (التُّهمةُ تَقدَحُ في التَّصَرُّفاتِ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا باعَ المَريضُ مَرَضَ المَوتِ أوِ اشتَرى بغَبنٍ يَسيرٍ جازَ للدَّائِنينَ أو للورَثةِ بَعدَ المَوتِ طَلَبُ فَسخِ التَّصَرُّفِ، إلَّا إذا رَضيَ المُتَعاقِدُ الآخَرُ برَفعِ الغَبنِ
[2958] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3073). .
2- تَصَرُّفُ المَريضِ بالوصيَّةِ فيما زادَ على الثُّلثِ مَوقوفٌ على إجازةِ الورَثةِ مِن بَعدِه
[2959] يُنظر: ((متن الغاية والتقريب)) لأبي شجاع (ص: 23). .
3- هِبةُ المَريضِ تَكونُ في حُدودِ الثُّلثِ، فإنِ احتَمَلَها الثُّلثُ أُمضِيَت وإلَّا رُدَّت؛ لأنَّ هبةَ المَريضِ في مَعنى الوصيَّةِ فتُعتَبَرُ مِنَ الثُّلثِ، وإنِ احتَمَلَ الثُّلثُ بَعضَها أُمضيَ مِنها قَدرُ ما احتَمَلَه الثُّلثُ، إلَّا أن يُجيزَه الوارِثُ، فيَصِحُّ في الجَميعِ
[2960] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/552)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/337). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناَّءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ تَصِحُّ فيها تَصَرُّفاتُ المَريضِ وتَنفُذُ، مِنها:
1- تَصَرُّفُ المَريضِ في ثُلُثِ مالِه؛ فإنَّه كَتَصَرُّفِ الصَّحيحِ في كُلِّ مالِه، فتَصَرُّفُ المَريضِ إذا اتَّصَلَ به المَوتُ بمَنزِلةِ الوصيَّةِ فيما يُعتَبَرُ فيه الثُّلُثُ؛ وذلك لحَديثِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه؛ حَيثُ قال:
((يا رَسولَ اللهِ، أوصي بمالي كُلِّه؟ قال: لا. قُلتُ: فالشَّطرُ؟ قال: لا. قُلتُ: الثُّلثُ؟ قال: فالثُّلثُ، والثُّلثُ كَثيرٌ؛ إنَّك أن تَدَعَ ورَثَتَك أغنياءَ خَيرٌ مِن أن تَدَعَهم عالةً يَتَكَفَّفونَ النَّاسَ في أيديهم )) [2961] أخرجه البخاري (2742) واللفظ له، ومسلم (1628). ؛ فقد رَدَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الثُّلثِ
[2962] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (4/174)، ((الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (3/109). .
2- عَفوُ المَريضِ عنِ القاتِلِ في دَمِ العَمدِ جائِزٌ؛ لقَولِ اللهِ تعالى:
وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237] مُطلَقًا مِن غَيرِ فصلٍ بَينَ حالِ المَرَضِ والصِّحَّةِ، ولأنَّ المانِعَ مِن نَفاذِ تَصَرُّفِ المَريضِ هو تَعلُّقُ حَقِّ الورَثةِ أوِ الغُرَماءِ، وإنَّما يَتَعَلَّقُ حَقُّهم بالمالِ، والقِصاصُ ليس بمالٍ
[2963] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/340). .