الفَرعُ الثَّالِثُ: النَّفعُ المُتَعَدِّي أفضَلُ مِنَ القاصِرِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "النَّفعُ المُتَعَدِّي أفضَلُ مِنَ القاصِرِ"
[2870] يُنظر: ((المدخل)) لابن الحاج (2/160). ، وصيغةِ: "العَمَلُ المُتَعَدِّي أفضَلُ مِنَ القاصِرِ"
[2871] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/420)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 144). ، وصيغةِ: "المَصالِحُ المُتَعَدِّيةُ أفضَلُ مِنَ القاصِرةِ"
[2872] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (1/325). ، وصيغةِ: "الحَسَنةُ المُتَعَدِّيةُ أفضَلُ مِنَ القاصِرةِ"
[2873] يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (3/466). ، وصيغةِ: "المُتَعَدِّي أفضَلُ مِنَ القاصِرِ"
[2874] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 144). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. تَتَفاوتُ الأعمالُ فيما بَينَها بحَسَبِ النَّفعِ المُتَرَتِّبِ عليها؛ فبَعضُ الأعمالِ نَفعُها يَكونُ قاصِرًا على الشَّخصِ القائِمِ بالعَمَلِ، كَصَلاةِ النَّافِلةِ، وبَعضُ الأعمالِ نَفعُها يَكونُ مُتَعَدِّيًا للآخَرينَ، كَصَدَقةِ النَّافِلةِ، وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما كان نَفعُه مُتَعَدِّيًا للآخَرينَ أفضَلُ مِمَّا نَفعُه قاصِرٌ على الشَّخصِ نَفسِه، فإذا تَعارَضَ عَمَلانِ وكان أحَدُهما نَفعُه قاصِرٌ على الشَّخصِ نَفسِه والآخَرُ مُتَعَدٍّ، وتَعَذَّرَ الجَمعُ بَينَهما، فإنَّ ما مَنفعَتُه تَتَعَدَّى الشَّخصَ إلى الآخَرِ أفضَلُ مِمَّا مَنفعَتُه قاصِرةٌ، وهذه القاعِدةُ أغلَبيَّةٌ، كما ذَكَرَ ذلك ابنُ حَجَرٍ الهَيتَميُّ
[2875] يُنظر: ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) (ص: 438). . وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ تَطبيقًا لقاعِدةِ (ما يَكونُ أكثَرَ نَفعًا فهو أفضَلُ)
[2876] يُنظر للمعنى الإجمالي: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (1/325)، ((المنثور)) للزركشي (2/420)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 144)، ((المدخل)) لابن الحاج (2/160). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ: قال اللهُ تعالى:
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 95] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ نَفى المُساواةَ بَينَ المُجاهِدينَ في سَبيلِ اللهِ والقاعِدينَ، ففضَّلَ المُجاهدينَ الذينَ استَفرَغوا طاقَتَهم في قِتالِ أعداءِ اللهِ وأعداءِ دينِهم بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لِما في جِهادِهم مِن إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ ونُصرةِ دينِه، وهذا نَفعٌ مُتَعَدٍّ
[2877] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 283)، ((اللباب)) لابن عادل (6/584). .
2- مِنَ السُّنَّةِ: عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ألا أُخبِرُكُم بأفضَلَ مِن دَرَجةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدَقةِ؟ قالوا: بَلى يا رَسولَ اللهِ، قال: إصلاحُ ذاتِ البَينِ، وفسادُ ذاتِ البَينِ الحالِقةُ )) [2878] أخرجه أبو داود (4919) واللفظ له، والترمذي (2509)، وأحمد (27508). صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (5092)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4919)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1050). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الحَديثَ حَثَّ على إصلاحِ ذاتِ البَينِ واجتِنابِ إفسادِها؛ لأنَّ الإصلاحَ سَبَبٌ للِاعتِصامِ بحَبلِ اللهِ، وعَدَمِ التَّفريقِ بَينَ المُسلِمينَ، وفسادُ ذاتِ البَينِ ثُلمةٌ في الدِّينِ، فمَن تَعاطى إصلاحَها ورَفْعَ فسادِها نالَ دَرَجةً عِندَ اللهِ سُبحانَه وتعالى فوقَ ما يَنالُها الصَّائِمُ القائِمُ المُشتَغِلُ بخاصَّةِ نَفسِه فقَط؛ إذ نَفعُ الإصلاحِ مُتَعَدٍّ
[2879] يُنظر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (10/3214)، ((لمعات التنقيح)) لعبد الحق الدهلوي (8/294). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- ذَكَر الجُوَينيُّ وغَيرُه أنَّ فُروضَ الكِفاياتِ أفضَلُ مِن فُروضِ الأعيانِ عِندَ التَّعارُضِ؛ لأنَّ المَصلَحةَ المُتَحَصِّلةَ مِنَ القيامِ بفرضِ الكِفايةِ مَصلَحةٌ مُتَعَدِّيةٌ، وهيَ إسقاطُ الحَرَجِ عنِ الأُمَّةِ
[2880] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/420). .
قال أبو المعَالي الجُوَينيُّ: (الذي أراه أنَّ القيامَ بما هو مِن فُروضِ الكِفاياتِ أحرى بإحرازِ الدَّرَجاتِ، وأعلى في فُنونِ القُرُباتِ مِن فرائِضِ الأعيانِ؛ فإنَّ ما تَعَيَّن على المُتَعَبِّدِ المُكَلَّفِ لو تَرَكَه ولَم يُقابِلْ أمرَ الشَّارِعِ فيه بالارتِسامِ، اختَصَّ المَأثَمُ به، ولَو أقامَه فهو المُثابُ.
ولَو فُرِضَ تَعطيلُ فَرضٍ مِن فُروضِ الكِفاياتِ لعَمَّ المَأثَمُ على الكافَّةِ على اختِلافِ الرُّتَبِ والدَّرَجاتِ، فالقائِمُ به كافٍ نَفسَه وكافَّةَ المُخاطَبينَ الحرَجَ والعِقابَ، وآمِلٌ أفضَلَ الثَّوابِ، ولا يَهونُ قدرُ مَن يَحُلُّ مَحَلَّ المُسلِمينَ أجمَعينَ في القيامِ لمُهمٍّ مِن مُهمَّاتِ الدِّينِ)
[2881] ((غياث الأمم)) (ص: 359). .
2- الاشتِغالُ بطَلَبِ العِلمِ أفضَلُ مِن صَلاةِ النَّافِلةِ؛ لأنَّ نَفعَ العِلمِ مُتَعَدٍّ، والصَّلاةُ نَفعُها قاصِرٌ على المُصَلِّي فقَط
[2882] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/421)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 144). .
3- الجَهرُ بقِراءةِ القُرآنِ أفضَلُ مِنَ الإسرارِ إن كان الجَهرُ أنشَطَ للقارِئِ في القِراءةِ، أو بحَضرَتِه مَن يَسمَعُ قِراءَتَه ويَنتَفِعُ بها؛ فالنَّفعُ المُتَعَدِّي أفضَلُ مِنَ القاصِرِ على نَفسِه، وإن كان إلى جَنبِ القارِئِ أو قَريبًا مِنه مَن يَتَهَجَّدُ أو في عِبادةٍ يَستَضرُّ برَفعِ صَوتِه فالإسرارُ أفضَلُ
[2883] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) للرملي (6/510،509). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:ذَكَر بَعضُ العُلَماءِ لهذه القاعِدةِ استِثناءاتٍ يَكونُ فيها العَمَلُ القاصِرُ أفضَلَ مِنَ المُتَعَدِّي، أو يُساويه، ومِن ذلك:
1- قد يَكونُ العَمَلُ القاصِرُ أفضَلَ مِنَ المُتَعَدِّي في الأعمالِ التي فيها صَلاحُ حالِ العَبدِ وقَلبِه:
قال عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (رُبَّ عَمَلٍ قاصِرٍ أفضَلُ مِن عَمَلٍ مُتَعَدٍّ، كالعِرفانِ والإيمانِ، وكذلك الحَجُّ والعُمرةُ، والصَّلاةُ والصِّيامُ، والأذكارُ وقِراءةُ القُرآنِ)
[2884] ((الفوائد في اختصار المقاصد)) (ص: 122)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 331)، ويُنظر: ((الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)) لابن الملقن (4/ 61). ، وبِنَحوِ ذلك قال القَرافيُّ، فقدِ عَدَّ قَولَ الفُقَهاءِ: "القُربةُ المُتَعَدِّيةُ أفضَلُ مِنَ القاصِرةِ مُطلَقًا" غَيرَ صَحيحٍ؛ لأنَّ الإيمانَ والمَعرِفةَ أفضَلُ مِنَ التَّصَدُّقِ بدِرهَمٍ، وإنَّما الفضلُ على قدرِ المَصالِحِ النَّاشِئةِ مِنَ القُرُباتِ
[2885] يُنظر: ((الذخيرة)) (13/357). .
قال ابنُ تَيميَّةَ:
((النَّفعُ المُتَعَدِّي ليس أفضَلَ مُطلَقًا، بَل يَنبَغي للإنسانِ أن يَكونَ له ساعاتٌ يُناجي فيها رَبَّه، ويَخلو فيها بنَفسِه ويُحاسِبُها، ويَكونُ فِعلُه ذلك أفضَلَ مِنِ اجتِماعِه بالنَّاسِ ونَفعِهم؛ ولِهذا كان خَلوةُ الإنسانِ في اللَّيلِ برَبِّه أفضَلَ مِنِ اجتِماعِه بالنَّاسِ) [2886] ((شرح عمدة الفقهـ)) (3/ 650). .
وقال الزَّركَشيُّ: (اعلَمْ أنَّ الشَّيخَ عِزَّ الدِّينِ أنكَرَ هذا الإطلاقَ أيضًا، وقال: قد يَكونُ القاصِرُ أفضَلَ كالإيمانِ، وقد قدَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التَّسبيحَ عَقِبَ الصَّلاةِ على الصَّدَقةِ [2887] لَفظُه: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ الفُقَراءُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: ذَهَب أهلُ الدُّثورِ مِنَ الأموالِ بالدَّرَجاتِ العُلا والنَّعيمِ المُقيمِ؛ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصومونَ كما نَصومُ، ولَهم فضلٌ مِن أموالٍ يَحُجُّونَ بها ويَعتَمِرونَ ويُجاهدونَ ويَتَصَدَّقونَ. قال: ألَا أُحَدِّثُكُم بما إن أخَذتُم به أدرَكتُم مَن سَبَقَكُم، ولَم يُدرِكْكُم أحَدٌ بَعدكُم، وكُنتُم خَيرَ مَن أنتُم بَينَ ظَهرانَيه إلَّا مَن عَمِلَ مِثلَه؟ تُسَبِّحونَ وتَحمَدونَ وتُكَبِّرونَ خَلفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثينَ، فاختَلَفنا بَينَنا، فقال بَعضُنا: نُسَبِّحُ ثَلاثًا وثَلاثينَ، ونَحمَدُ ثَلاثًا وثَلاثينَ، ونُكَبِّرُ أربَعًا وثَلاثينَ، فرَجَعتُ إليه فقال: تَقولُ: سُبحانَ اللَّهِ، والحَمدُ للهِ، واللهُ أكبَرُ، حتَّى يَكونَ منهنَّ كُلِّهنَّ ثَلاثًا وثَلاثينَ)) أخرجه البخاري (843) واللَّفظُ له، ومسلم (595). ، وقال: ((خَيرُ أعمالِكُمُ الصَّلاةُ )) [2888] أخرجه ابن ماجه (277)، وأحمد (22436) من حديثِ ثَوبانَ مَولى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. صَحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (454) وقال: على شَرطِ الشَّيخَينِ، ومُحَمَّد ابن عَبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/285)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (4/130)، والذهبي في ((ميزان الاعتِدالِ)) (4/220)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (277)، وشعيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (22378). ، ((وسُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أفضَلُ؟ فقال: إيمانٌ باللهِ، قيلَ: ثُمَّ ماذا؟ قال: جِهادٌ في سَبيلِ اللهِ، قيلَ: ثُمَّ ماذا؟ قال: حَجٌّ مَبرورٌ )) [2889] أخرجه البخاري (26) واللفظ له، ومسلم (83). ، وهذه كُلُّها قاصِرةٌ، قُلتُ: إلَّا الجِهادَ، ثُمَّ اختارَ تَبَعًا للغَزاليِّ في الإحياءِ أنَّ فَضلَ الطَّاعاتِ على قَدرِ المَصالِحِ النَّاشِئةِ عنها، فتَصَدُّقُ البَخيلِ بدِرهَمٍ أفضَلُ في حَقِّه مِن قيامِ لَيلةٍ وصيامِ أيَّامٍ) [2890] ((المنثور)) (2/422،421). .
2- قد يَكونُ العَمَلُ القاصِرُ مُساويًا للمُتَعَدِّي: فالعَمَلُ القاصِرُ قد يُساوي المُتَعَدِّيَ، خِلافًا لمَن قال: إنَّ المُتَعَدِّيَ أفضَلُ مُطلَقًا [2891] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 331)، ((عمدة القاري)) للعيني (6/ 132). .
واستُدِلَّ لذلك بحَديثِ أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ تعالى عنه؛ حَيثُ قال: ((جاءَ الفُقَراءُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: ذَهَب أهلُ الدُّثورِ مِنَ الأموالِ بالدَّرَجاتِ العُلا والنَّعيمِ المُقيمِ؛ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصومونَ كما نَصومُ، ولَهم فضلٌ مِن أموالٍ يَحُجُّونَ بها ويَعتَمِرونَ ويُجاهدونَ ويَتَصَدَّقونَ. قال: ألَا أُحَدِّثُكُم بما إن أخَذتُم به أدرَكتُم مَن سَبَقَكُم، ولَم يُدرِكْكُم أحَدٌ بَعدكُم، وكُنتُم خَيرَ مَن أنتُم بَينَ ظَهرانَيه إلَّا مَن عَمِلَ مِثلَه؟ تُسَبِّحونَ وتَحمَدونَ وتُكَبِّرونَ خَلفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثينَ، فاختَلَفنا بَينَنا، فقال بَعضُنا: نُسَبِّحُ ثَلاثًا وثَلاثينَ، ونَحمَدُ ثَلاثًا وثَلاثينَ، ونُكَبِّرُ أربَعًا وثَلاثينَ، فرَجَعتُ إليه فقال: تَقولُ: سُبحانَ اللَّهِ، والحَمدُ للهِ، واللهُ أكبَرُ، حتَّى يَكونَ منهنَّ كُلِّهنَّ ثَلاثًا وثَلاثينَ )) [2892] أخرجه البخاري (843) واللفظ له، ومسلم (595). [2893] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 331)، ((عمدة القاري)) للعيني (6/ 132). .
3- إقراءُ القُرآنِ في الصَّلاةِ والطَّوافِ والاعتِكافِ مَعَ كَونِها نَفعًا مُتَعَدِّيًا إلَّا أنَّ النَّفعَ القاصِرَ هنا أفضَلُ مِنَ المُتَعَدِّي.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (ولمَّا كان في الصَّلاةِ والطَّوافِ شُغلٌ عن كَلامِ النَّاسِ، فكذلك الاعتِكافُ، وذلك أنَّها عِبادةٌ شُرِع لَها المَسجِدُ، فلا يُستَحَبُّ الإقراءُ حينَ التَّلَبُّسِ بها كالصَّلَواتِ والطَّوافِ. قال القاضي: لا خِلافَ أنَّه يُكرَهُ أن يُقرِئَ القُرآنَ وهو يُصَلِّي أو يَطوفُ، كذلك الاعتِكافُ.
ولأنَّ العُكوفَ على الشَّيءِ هو الإقبالُ عليه على وَجهِ المواظَبةِ، ولا يَحصُلُ ذلك للعاكِفِ إلَّا بالتَّبَتُّلِ إلى اللهِ سُبحانَه وتَركِ الاشتِغالِ بشَيءٍ آخَرَ. وأمَّا كَونُ النَّفعِ المُتَعَدِّي أفضَلَ، فعنه أجوِبةٌ:
أحَدُها: أنَّه لا يَلزَمُ مَن كونِ الشَّيءِ أفضَلَ أن يَكونَ مَشروعًا في كُلِّ عِبادةٍ، بَل وَضعُ الفاضِلِ في غَيرِ مَوضِعِه يَجعَلُه مَفضولًا، وبِالعَكسِ؛ ولِهذا قِراءةُ القُرآنِ أفضَلُ مِنَ التَّسبيحِ، وهيَ مَكروهةٌ في الرُّكوعِ والسُّجودِ؛ ولِهذا لا يُشرَعُ هذا في الصَّلاةِ والطَّوافِ، وإن كانا أفضَلَ مِنَ الصَّلاةِ والطَّوافِ النَّافِلَتَينِ.
الثَّاني: أنَّ كَونَهما أفضَلَ يَقتَضي الاشتِغالَ بهما عنِ الاعتِكافِ. قال الآمِديُّ: لا تَختَلِفُ الرِّوايةُ أنَّ مَن أرادَ أن يَبتَدِئَ الاعتِكافَ فتَشاغُلُه بإقراءِ القُرآنِ أفضَلُ مَن تَشاغُلِه بالاعتِكافِ) [2894] ((شرح عمدة الفقهـ)) (3/ 648- 649). .