موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الأقوى أحَقُّ بالحُكمِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأقوى أحَقُّ بالحُكمِ" [2721] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/132)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/171). ، وصيغةِ: "الضَّعيفُ لا يُقابِلُ القَويَّ" [2722] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 214). ، وصيغةِ: "الأقوى أحَقُّ بالحُكمِ مِنَ الأضعَفِ" [2723] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/132). ، وصيغةِ: "كُلُّ أمرَينِ لا يَجتَمِعانِ يُقدِّمُ الشَّارِعُ أقواهما على أضعَفِهما" [2724] يُنظر: ((ترتيب الفروق واختصارها)) للبقوري (2/47). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
هذه القاعِدةُ هيَ إحدى قَواعِدِ التَّرجيحِ، ومُفادُها أنَّ الحُكمَ حينَما يَتَنازَعُه أمرانِ أحَدُهما أقوى مِنَ الآخَرِ ولا يُمكِنُ الجَمعُ بَينَهما، فإنَّه يُحكَمُ به للأقوى؛ فهو أَولى وأحَقُّ بالحُكمِ مِن غَيرِه، فلا يُحكَمُ للضَّعيفِ ويُترَكُ القَويُّ، بَل يَجِبُ الحُكمُ للأقوى [2725] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/132)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 214)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/171)، ((ترتيب الفروق واختصارها)) للبقوري (2/47). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن وائِلِ بنِ حُجرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء رجلٌ مِن حَضرَمَوْتَ ورجلٌ مِن كِنْدَةَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال الحَضْرَميُّ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا قد غَلَبَني على أرضٍ لي كانت لأبي، فقال الكِنْديُّ: هي أرضي في يَدِي أزرعُها ليس له فيها حقٌّ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للحَضْرميِّ: ألك بيِّنةٌ؟ قال: لا، قال: فلك يمينُه، قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الرَّجُلَ فاجِرٌ لا يُبالي على ما حَلَف عليه، وليس يتورَّعُ مِن شيءٍ! فقال: ليس لك مِنه إلَّا ذلك، فانطَلَق ليَحلِفَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا أدبَرَ: أمَا لئِن حَلَفَ على مالِه ليأكُلَه ظُلمًا لَيلْقيَنَّ اللَّهَ وهو عنه مُعْرِضٌ )) [2726] أخرجه مسلم (139). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدَّمَ البَيِّنةَ على اليَمينِ، ولأنَّ البَيِّنةَ حُجَّةٌ خارِجةٌ عنِ المُحتَجِّ بها فانتَفتِ التُّهمةُ عنها، واليَمينُ صادِرةٌ عنِ المُحتَجِّ بها فتَوجَّهَتِ التُّهمةُ إليها، وما عُدِمَتِ التُّهمةُ فيه أقوى مِمَّا تَوجَّهَت إليه. وتَقديمُ الأقوى على الأضعَفِ أَولى مِن تَقديمِ الأضعَفِ على الأقوى، ولأنَّ البَيِّنةَ قَولُ اثنَينِ، واليَمينُ قَولُ واحِدٍ، وقَولُ الاثنَينِ أَولى مِن قَولِ الواحِدِ. فإن لم يُقِمِ المُدَّعي البَيِّنةَ، فالقَولُ قَولُ المُدَّعى عليه مَعَ يَمينِه؛ لأنَّه قد صارَ مَعَ عَدَمِ البَيِّنةِ أقوى مِنَ المُدَّعي [2727] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/ 132)، ((بحر المذهب)) للروياني (14/ 404)، ((البيان)) للعمراني (13/ 98). .
2- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن حَكاه في الجُملةِ: الرَّازيُّ [2728] قال: (الأُمَّةُ مُجمِعةٌ على أنَّه لا يَجوزُ العَمَلُ بالأضعَفِ). ((المحصول)) (6/40). ، وابنُ الصَّلاحِ [2729] قال: (اعلَمْ أنَّ مَن يَكتَفي بأن يَكونَ في فُتياه أو عَمَلِه موافِقًا لقَولٍ أو وجهٍ في المَسألةِ، ويَعمَلُ بما يَشاءُ مِنَ الأقوالِ أوِ الوُجوهِ مِن غَيرِ نَظَرٍ في التَّرجيحِ، ولا تَقَيُّدٍ به، فقد جَهِلَ وخَرَقَ الإجماعَ، وسَبيلُه سَبيلُ الذي حَكى عنه أبو الوليدِ الباجيُّ المالِكيُّ مِن فُقَهاءِ أصحابِه، أنَّه كان يَقولُ: إنَّ الذي لِصَديقي عَليَّ إذا وقَعَت له حُكومةٌ أن أُفتيَه بالرِّوايةِ التي توافِقُه. وحَكى عَمَّن يَثِقُ به: أنَّه وقَعَت له واقِعةٌ وأفتى فيها وهو غائِبٌ جَماعةٌ مِن فُقَهائِهم مِن أهلِ الصَّلاحِ بما يَضُرُّه، فلمَّا عادَ سَألَهم فقالوا: ما عَلِمنا أنَّها لَك، وأفتَوه بالرِّوايةِ الأُخرى التي توافِقُه، قال: وهذا مِمَّا لا خِلافَ بَينَ المُسلِمينَ مِمَّن يُعتَدُّ به في الإجماعِ أنَّه لا يَجوزُ). ((أدب المفتي والمستفتي)) (ص 125). ، والقُرطُبيُّ [2730] قال: (قَولُه: "إلَّا أحَدٌ لا يَجِدُ النَّعلَينِ فليَلبَسِ الخُفَّينِ، وليَقطَعْهما أسفلَ مِنَ الكَعبَينِ"، هذا الحَديثُ رَدٌّ على مَن قال: إنَّ المُحرِمَ لا يَقطَعُ الخُفَّينِ لأنَّه إضاعةُ مالٍ، وهذا مِن هذا القائِلِ حُكمٌ بالعُمومِ على الخُصوصِ، وهو عَكسُ ما يَجِبُ؛ إذ هو إعمالُ المَرجوحِ وإسقاطُ الرَّاجِحِ، وهو فاسِدٌ بالإجماعِ). ((المفهم)) (3/257). ، وابنُ القَيِّمِ [2731] قال: (لا يَجوزُ للمُفتي أن يَعمَلَ بما يَشاءُ مِنَ الأقوالِ والوُجوهِ مِن غَيرِ نَظَرٍ في التَّرجيحِ، ولا يُعتَدُّ به، بَل يَكتَفي في العَمَلِ بمُجَرَّدِ كَونِ ذلك قَولًا قاله إمامٌ، أو وجهًا ذَهَبَ إليه جَماعةٌ، فيَعمَلُ بما يَشاءُ مِنَ الوُجوهِ والأقوالِ حَيثُ رَأى القَولَ وَفقَ إرادَتِه وغَرَضِه عَمِلَ به، فإرادَتُه وغَرَضُه هو العِيارُ، وبِها التَّرجيحُ، وهذا حَرامٌ باتِّفاقِ الأُمَّةِ). ((إعلام الموقعين)) (5/95). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو أخبَرَ المَحبوسَ والأعمى رَجُلانِ كلٌّ مِنهما يَزعُمُ أنَّه يُخبِرُه عن عِلمٍ بجِهةِ القِبلةِ، واختَلَفا، فإنَّه يَجِبُ عليه أن يَعمَلَ بأصدَقِهما وأوثَقِهما [2732] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (2/579). .
2- لو أقَرَّ بدَينٍ حالَ صِحَّتِه، وأقَرَّ بدَينٍ حالَ مَرَضِه، فإنَّه يُقدَّمُ دَينُ الصِّحَّةِ على دَينِ المَرَضِ؛ لقوَّةِ الأوَّلِ، وضَعفِ الثَّاني، والأقوى أَولى بالحُكمِ [2733] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (25/86). .
3- لو قال الرَّجُلُ لامرَأتِه: إن دَخَلتِ الدَّارَ فأنتِ عَليَّ كَظَهرِ أُمِّي، ثُمَّ طَلَّقَها فأبانَها، فدَخَلَتِ الدَّارَ في العِدَّةِ أو بَعدَ العِدَّةِ، لم يَكُنْ مُظاهِرًا مِنها؛ لأنَّ مُوجِبَ الظِّهارِ حُرمةٌ تَرتَفِعُ بالكَفَّارةِ، وبِالبَينونةِ تَثبُتُ حُرمةٌ أقوى مِن ذلك، فلا يَظهَرُ الضَّعيفُ مَعَ القَويِّ [2734] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/ 230). .
4- قَضاءُ القاضي أنفَذُ مِنَ الشَّهادةِ التي لم يُقضَ بها، فالشَّهادةُ لم تَكُنْ مُلزِمةً بدونِ القَضاءِ، وقَضاءُ القاضي يَلزَمُه بنَفسِه، والضَّعيفُ لا يَظهَرُ في مُقابَلةِ القَويِّ [2735] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 179). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
فائِدةٌ:
هذه القاعِدةُ مُشتَركةٌ بَينَ الفِقهِ وأُصولِ الفِقهِ، وذلك على النَّحوِ الآتي:
- فهيَ فِقهيَّةٌ: باعتِبارِ تَقديمِ الأقوى على ما دونَه فيما له صِلةٌ بمُتعَلقِ الحُكمِ، وتَشمَلُ كُلَّ ما يَصلُحُ أن تَقَعَ فيه مُنازَعةٌ على أمرٍ مِن أُمورِ العِباداتِ والعاداتِ والمُعامَلاتِ.
- وهيَ أُصوليَّةٌ: باعتِبارِ تَرجيحِ الأقوى على ما دونَه في دَليلِ الحُكمِ، وفي القياسِ، ودَلالةِ العُمومِ والخُصوصِ، والتَّعارُضِ والتَّرجيحِ وغَيرِها [2736] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (3/103)، (6/40)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/ 171)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (6/2344) و(5/ 2115)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/ 1645)، ((معلمة زايد)) (11/ 132). .

انظر أيضا: