موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ السَّادِسُ: كُلُّ ما اعتُبِرَ له وقتٌ فلا يَصِحُّ قَبلَ وَقتِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ ما اعتُبِرَ له وقتٌ فلا يَصِحُّ قَبلَ وقتِه" [2269] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/390). . وصيغةِ: "الشَّيءُ الموقَّتُ بوَقتٍ لا يَصِحُّ قَبلَ وَقتِه" [2270] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/231). . وصيغةِ: "فِعلُ الواجِبِ قَبلَ وَقتِه غَيرُ جائِزٍ" [2271] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (4/249). . وصيغةِ: "ما حَصَلَ قَبلَ أوانِه فلا يُعتَدُّ به" [2272] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (1/228). . وصيغةِ: "كُلُّ عِبادةٍ مُؤَقَّتةٍ بميقاتٍ لا يَجوزُ تَقديمُها عليه" [2273] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/144). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
كُلُّ عَمَلٍ اعتَبَرَ الشَّارِعُ له وقتًا مُحَدَّدًا فلا يَصِحُّ فِعلُه قَبلَ دُخولِ وَقتِه المُحَدَّدِ؛ لأنَّ وُجودَه يَكونُ كَعَدَمِه، فلا يَجوزُ لأحَدٍ تَقديمُ شَيءٍ مِن أُمورِ الدِّينِ قَبلَ وقتِه، ولا يَجوزُ تَأخيرُه عن وقتِه، فالعِباداتُ المُؤَقَّتةُ ببِدايةٍ ونِهايةٍ يَجِبُ التَّقَيُّدُ بوقتِها في فِعلِها، ولا يَجوزُ أداؤُها قَبلَ أوقاتِها [2274] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (1/87)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/211)، ((المغني)) لابن قدامة (2/390)، ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (5/333). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229] ، وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيَتَينِ:
أنَّ الأوقاتَ حُدودٌ، فمَن تَعَدَّى بالعَمَلِ وقتَه الذي حَدَّه اللَّهُ تعالى له فقد تَعَدَّى حُدودَ اللهِ، فلا يَجوزُ أن يَعمَلَ أحَدٌ شَيئًا مِن أُمورِ الدِّينِ مُؤَقَّتًا بوقتٍ قَبلَ وَقتِه [2275] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (1/87). .
- وقد ورَدَت بَعضُ الآياتِ في عِباداتٍ خاصَّةٍ، ومِن ذلك:
قَولُ اللهِ تعالى في الصَّلاةِ: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المَعنى: فرضًا مُحَدَّدًا بوقتٍ مَعلومٍ لا بُدَّ مِن أدائِها فيه، فلا يَجوزُ أداءُ الفرضِ قَبلَ وَقتِه، والمُحَدَّدُ بوقتٍ كَما لا يَصِحُّ قَبلَه لا يَصِحُّ بَعدَه بلا عُذرٍ، وإلَّا لما كان لتَحديدِ آخِرِه فائِدةٌ سِوى تَحريمِ التَّأخيرِ [2276] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/107)، ((التفسير المنير)) لوهبة الزحيلي (5/235). .
وقال اللهُ تعالى في الحَجِّ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: 197] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على أنَّه لا يَجوزُ الوُقوفُ بعَرَفةَ قَبلَ يَومِ عَرَفةَ، ولا طَوافُ الزِّيارةِ قَبلَ يَومِ النَّحرِ، ولا أداءُ شَيءٍ مِن أفعالِ الحَجِّ قَبلَ وَقتِه؛ لأنَّ الحَجَّ عِبادةٌ مُؤَقَّتةٌ، فكذلك العِباداتُ المُؤَقَّتةُ لا يَجوزُ أداؤُها قَبلَ أوقاتِها، كالصَّلاةِ والصَّومِ [2277] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/211). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ )) [2278] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ قَبلَ حَديث (2142)، وأخرجه مَوصولًا مُسلِمٌ (1718). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ مَن أمَرَه اللَّهُ تعالى بعَمَلٍ في وقتٍ سَمَّاه له فعَمِله في غَيرِ ذلك الوقتِ، فقد عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمرُ اللهِ تعالى، ولا أمرُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهو مَردودٌ باطِلٌ غَيرُ مَقبولٍ [2279] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (1/88). .
3- مِنَ الإجماعِ:
وقد حُكيَ الإجماعُ على بَعضِ صُوَرِ المَسألةِ، مِنها:
1- الإجماعُ على عَدَمِ جَوازِ الأذانِ قَبلَ وقتِه، ومِمَّن حَكاه: ابنُ المُنذِرِ، وابنُ القَطَّانِ [2280] قالا: (أجمعَ أهلُ العِلمِ على أنَّ مِنَ السُّنَّةِ أن يُؤَذَّنَ للصَّلاةِ بَعدَ دُخولِ أوقاتِها إلَّا الفَجرَ؛ فإنَّهمُ اختَلَفوا في الأذانِ لصَلاةِ الفَجرِ قَبلَ دُخولِ وَقتِها). ((الأوسط)) (3/29)، ((الإقناع)) (1/115). .
2- الإجماعُ على عَدَمِ جَوازِ الصَّلاةِ قَبلَ وقتِها، ومِمَّن حَكاه: ابنُ رُشدٍ الجَدُّ [2281] قال: (وأمَّا دُخولُ الوقتِ فالدَّليلُ على صِحَّةِ اشتِراطِه في وُجوبِ الصَّلاةِ: إجماعُ أهلِ العِلمِ أنَّ مَن صَلَّى صَلاةً قَبلَ دُخولِ وَقتِها فإنَّها لا تُجزِئُه، فلا خِلافَ بَينَ أحَدٍ مِنَ المُسلِمينَ أنَّ الصَّلاةَ لا تَجِبُ على أحَدٍ قَبلَ دُخولِ وَقتِها، إلَّا أنَّه يَجِبُ عليه قَبلَ دُخولِ وَقتِها اعتِقادُ وُجوبِها عليه إذا دَخَلَ وقتُها). ((المقدمات الممهدات)) (1/148). .
3- الإجماعُ على عَدَمِ جَوازِ الأُضحيَّةِ قَبلَ وقتِها، ومِمَّن حَكاه: ابنُ بَطَّالٍ، وابنُ المُلَقِّنِ [2282] قالا: (أجمَعَ العُلَماءُ أنَّ مَن ذَبَح قَبلَ الصَّلاةِ فعليه الإعادةُ؛ لأنَّه ذَبح قَبلَ وَقتِهـ). ((شرح صحيح البخاري)) (6/25) ((التوضيح)) (26/633). ، والعَينيُّ [2283] قالا: (مَن ذَبَح قَبلَ الصَّلاةِ فعليه الإعادةُ بالإجماعِ؛ لأنَّه ذَبح قَبلَ وَقتِهـ). ((عمدة القاري)) (21/157). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لا يَجوزُ للمُؤَذِّنِ أن يُؤَذِّنَ للصَّلاةِ قَبلَ دُخولِ وَقتِها، ويُعادُ الأذانُ في الوقتِ؛ لأنَّ الأذانَ مَعناه الإعلامُ بدُخولِ أوقاتِ الصَّلَواتِ والدُّعاءُ إليها، فلا يَكونُ قَبلَ الوقتِ [2284] يُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (3/30)، ((مختصر القدوري)) (ص: 25)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/311). .
2- يُشتَرَطُ للصَّلاةِ دُخولُ الوقتِ، ويَختَصُّ الوقتُ ببَعضِ الصَّلَواتِ، وكُلُّ ما اعتُبِرَ له وقتٌ فلا يَصِحُّ قَبلَ وقتِه، ولا يَجوزُ لأحَدٍ أن يُصَلِّيَ الصَّلاةَ قَبلَ دُخولِ وَقتِها، وإن صَلَّى قَبلَ دُخولِ الوقتِ فصَلاتُه غَيرُ صَحيحةٍ، ولم تُجزِئْ عنه إلَّا الصَّلاةُ الثَّانيةُ مِنَ الصَّلاتَينِ المَجموعَتَينِ؛ حَيثُ تُفعَلُ في وقتِ الأولى حالَ العُذرِ إذا جُمِعَ بَينَهما [2285] يُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 320)، ((المغني)) لابن قدامة (2/390)، ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 128). .
3- لا يَصِحُّ الصَّومُ قَبلَ رُؤيةِ هلالِ رَمَضانَ، فلَو أرادَ إنسانٌ أن يَصومَ قَبلَ رَمَضانَ ولَو بيَومٍ واحِدٍ فإنَّه لا يُجزِئُه عن رَمَضانَ؛ لأنَّ الشَّيءَ الموقَّتَ بوقتٍ لا يَصِحُّ قَبلَ وَقتِه [2286] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/231). .

انظر أيضا: