الفَرعُ الثَّاني: المَفقودُ حَيٌّ في حَقِّ نَفسِه، مَيِّتٌ في حَقِّ غَيرِه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المَفقودُ حَيٌّ في حَقِّ نَفسِه، مَيِّتٌ في حَقِّ غَيرِه"
[2067] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/34)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/196)، ((الاختيار)) للموصلي (3/37)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/310)، ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/360)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/127)، ((ملتقى الأبحر)) للحلبي (ص: 538)، ((البحر الرائق)) لزين الدين ابن نجيم (5/176)، ((النهر الفائق)) لسراج الدين ابن نجيم (3/290)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/713). . وصيغةِ: "المَفقودُ حَيٌّ في مالِ نَفسِه مَيِّتٌ في مالِ غَيرِه"
[2068] يُنظر: ((الكافي)) للسغناقي (3/1390). . و"المَفقودُ يُعتَبَرُ حَيًّا في مالِه، مَيِّتًا في مالِ غَيرِه"
[2069] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (5/455)، ((الفتاوى الهندية)) (6/456). . و"المَفقودُ يُعتَبَرُ حَيًّا في حَقِّ الأحكامِ التي تَضُرُّه، ويُعتَبَرُ مَيِّتًا فيما يَنفعُه ويَضُرُّ غَيرَه"
[2070] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/293). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.اشتَهَرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهيَ مُتَعَلِّقةٌ بالمَفقودِ، وهو الشَّخصُ الذي غابَ عن بَلَدِه ولا يُعرَفُ خَبَرُه، أنَّه حَيٌّ أم مَيِّتٌ، ولا يُعلَمُ له مَكانٌ، ومَضى على ذلك زَمانٌ؛ فهو مَعدومٌ بهذا الاعتِبارِ، فحُكمُه في الشَّرعِ أنَّه يُعتَبَرُ حَيًّا في حَقِّ الأحكامِ التي تَضُرُّه، وهيَ المُتَوقِّفةُ على ثُبوتِ مَوتِه، ويُعتَبَرُ مَيِّتًا فيما يَنفعُه ويَضُرُّ غَيرَه، وهو ما يَتَوقَّفُ على حَياتِه؛ لأنَّ الأصلَ أنَّه حَيٌّ، وأنَّه إلى الآنَ كذلك؛ استِصحابًا للحالِ السَّابِقِ.
والشَّخصُ الواحِدُ لا يَكونُ حَيًّا ومَيِّتًا حَقيقةً؛ لِما فيه مِنَ الاستِحالةِ، ولَكِن مَعنى هذه القاعِدةِ أنَّه تَجري عليه أحكامُ الأحياءِ فيما كان له، فلا يُورَثُ مالُه ولا تَبِينُ امرَأتُه، كَأنَّه حَيٌّ حَقيقةً، وتَجري عليه أحكامُ الأمواتِ فيما لم يَكُنْ له، فلا يَرِثُ أحَدًا، كَأنَّه مَيِّتٌ حَقيقةً، والعِلَّةُ في ذلك أنَّ حالَه غَيرُ مَعلومٍ، يُحتَمَلُ أنَّه حَيٌّ، ويُحتَمَلُ أنَّه مَيِّتٌ، وهذا يَمنَعُ التَّوارُثَ والبَينونةَ.
ويَظَلُّ هذا حُكمَه حتَّى يَحكُمَ الحاكِمُ بمَوتِه، وتُبنى الأحكامُ الشَّرعيَّةُ على الغالِبِ لا على النَّادِرِ. فيُعتَبَرُ المَفقودُ حَيًّا في مالِه، مَيِّتًا في مالِ غَيرِه، حتَّى يَنقَضيَ مِنَ المُدَّةِ ما يُعلَمُ أنَّ مِثلَه لا يَعيشُ إلى تلك المُدَّةِ، أو يَموتَ أقرانُه، وبَعدَ ذلك يُعتَبَرُ مَيِّتًا في مالِه يَومَ تَمَّتِ المُدَّةُ أو ماتَ الأقرانُ، وفي مالِ الغَيرِ يُعتَبَرُ كَأنَّه ماتَ يَومَ فُقِدَ
[2071] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/34)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/196)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (5/455)، ((منحة السلوك)) للعيني (ص: 456)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/127)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/103)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/293)، ((الفتاوى الهندية)) (2/299)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (9/7187). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا)؛ لأنَّ المَفقودَ مَعدومٌ في حَقِّ غَيرِه شَرعًا، والمَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالاستِصحابِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ الاستِصحابِ:وَجهُ ذلك: أنَّ حُكمَ المَفقودِ في الشَّرعِ أنَّه حَيٌّ في حَقِّ نَفسِه، فلا يُقسَمُ مالُه بَينَ ورَثَتِه، وهو مَيِّتٌ في حَقِّ غَيرِه، فلا يَرِثُ هو إذا ماتَ أحَدٌ مِن أقرِبائِه؛ لأنَّ ثُبوتَ حَياةِ المَفقودِ ثَبَتَت باستِصحابِ الحالِ؛ فإنَّه عُلِمَت حَياتُه قَبلَ فَقدِه، فيُستَصحَبُ ذلك ما لم يَظهَرْ خِلافُه، واستِصحابُ الحالِ يَصلُحُ لإبقاءِ ما كان على ما كان، ولا يَصلُحُ لإثباتِ ما لم يَكُنْ ثابِتًا، وفي الامتِناعِ مِن قِسمةِ مالِه بَينَ ورَثَتِه إبقاءُ ما كان على ما كان؛ لأنَّ مِلكَه في أحكامِ أموالِه ونِسائِه أمرٌ قد كان، واستصحبنا حالَ الحَياةِ لإبقائِه. أمَّا تَوريثُه مِنَ الغَيرِ ففيه إثباتُ أمرٍ لم يَكُنْ ثابِتًا له؛ لأنَّ مِلكَه في مالِ غَيرِه أمرٌ لم يَكُنْ، فتَقَعُ الحاجةُ إلى الإثباتِ، واستِصحابُ الحالِ لا يَصلُحُ حُجَّةً لإثباتِ ما لم يَكُنْ
[2072] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/34)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/196)، ((شرح الوقاية)) لصدر الشريعة (3/277). .
2- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقَواعِدِ التَّاليةِ:
- القاعِدةُ الأُمُّ: (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا).
- والقاعِدةُ الكُبرى: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- لا تُفسَخُ إجارةُ المَفقودِ؛ لأنَّ مِلكَه كان ثابِتًا في مَنافِعِ ما استَأجَرَه، وغَيبوبَتُه لا توجِبُ الفُرقةَ، وهو حَيٌّ في حَقِّ نَفسِه، ومَيِّتٌ في حَقِّ غَيرِه
[2073] يُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (3/37)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/103)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/713). .
2- يَنبَغي للقاضي أن يَحفظَ مالَ المَفقودِ بأن يُقيمَ مَن ينصبُه للحِفظِ؛ لأنَّه مالٌ لا حافِظَ له لعَجزِ صاحِبِه عنِ الحِفظِ، كَما يَحفظُ مالَ الصَّبيِّ والمَجنونِ الذي لا وَليَّ لهما، وكذلك يَبيعُ القاضي مِن مالِه ما يَتَسارَعُ إليه الفَسادُ ويَحفظُ ثَمَنَه؛ لأنَّ ذلك حِفظٌ له مَعنًى
[2074] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/196)، ((الاختيار)) للموصلي (3/37)، ((النهر الفائق)) لسراج الدين ابن نجيم (3/290). .
3- لا تُنكَحُ زَوجةُ المَفقودِ، ولا يُفرَّقُ بَينَه وبَينَها؛ لأنَّ النِّكاحَ حَقُّه، وهو حَيٌّ في حَقِّ نَفسِه، ويَجِبُ الإنفاقُ على زَوجَتِه مِن مالِه؛ لأنَّ الإنفاقَ عليها إحياءٌ لها، فكان مِن بابِ حِفظِ مِلكِ الغائِبِ عليه عِندَ عَجزِه عنِ الحِفظِ بنَفسِه، فيَملِكُه كَما يَملِكُ حِفظَ مالِه، وكذلك الإنفاقُ على مَن يَجِبُ عليه الإنفاقُ عليهم، كأولادِه الصِّغارِ مِنَ الذُّكورِ والإناثِ، ووالِدَيه المُحتاجينَ
[2075] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/196)، ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/360)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/103). .