المَطلَبُ الأوَّلُ: يُعطى المَعدومُ حُكمَ المَوجودِ، ويُعطى المَوجودُ حُكمَ المَعدومِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بصيغةِ: "إعطاءُ المَعدومِ حُكمَ المَوجودِ، وإعطاءُ المَوجودِ حُكمَ المَعدومِ"
[1998] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) (2/112)، ((الفوائد)) (ص: 134) كلاهما للعز بن عبد السلام، ((الفروق)) (1/71)، ((الذخيرة)) (3/33) كلاهما للقرافي، ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/246)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/468). . وصيغةِ: "المَعدومُ يُنَزَّلُ مَنزِلةَ المَوجودِ في صُوَرٍ"
[1999] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/182). . وصيغةِ: "تَنزيلُ المَعدومِ مَنزِلةَ المَوجودِ تَقديرًا لا تَحقيقًا"
[2000] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/1250). . وصيغةِ: "المَعدومُ قد يُعتَبَرُ مَوجودًا حُكمًا"
[2001] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/77)، ((العناية)) للبابرتي (7/115). . وصيغةِ: "الاحتياطُ أن نَجعَلَ المَعدومَ كالمَوجودِ، والمَوهومَ كالمُحَقَّقِ، وما يُرى على بَعضِ الوُجوهِ لا يُرى إلَّا على كُلِّها"
[2002] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/110). . وصيغةِ: "قد يَكونُ الشَّيءُ مَوجودًا حَقيقةً ويُجعَلُ مَعدومًا حُكمًا"
[2003] يُنظر: ((البناية)) للعيني (8/374). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُبَيِّنُ القاعِدةُ الحُكمَ في نَوعَينِ مِن أنواعِ التَّقديراتِ، وهما:
1- إعطاءُ المَعدومِ حُكمَ المَوجودِ.
2- إعطاءُ المَوجودِ حُكمَ المَعدومِ.
وهذان النَّوعانِ مِنَ التَّقديراتِ على خِلافِ التَّحقيقِ؛ وذلك أنَّ إعطاءَ المَوجودِ حُكمَ المَعدومِ، أو إعطاءَ المَعدومِ حُكمَ المَوجودِ: هو مُخالِفٌ للأصلِ؛ لأنَّ وَضْعَ المَعلومِ على خِلافِ ما هو عليه خِلافٌ للأصلِ. ولا إشكالَ في أن يُقدَّرَ الشَّيءُ مَعدومًا بالنِّسبةِ إلى بَعضِ آثارِه دونَ بَعضٍ، كالبَولِ الخارِجِ على وَجهِ السَّلَسِ؛ فإنَّه لا يوجِبُ الوُضوءَ، وإذا وقَعَ على ثَوبِ إنسانٍ نَجَّسَه اتِّفاقًا، بخِلافِ ما لو صَلَّى صاحِبُ السَّلَسِ بإنسانٍ ففيه خِلافٌ؛ فقد قُدِّرَ مَعدومًا بالنِّسبةِ إلى بَعضِ آثارِه دونَ بَعضٍ. وكذلك في العُقودِ؛ فيَحكُمُ صاحِبُ الشَّرعِ بأنَّ العَقدَ المَوجودَ والإباحةَ المُتَرَتِّبةَ عليه وجَميعَ آثارِه في حُكمِ العَدَمِ وإن كانت مَوجودةً. ولا تَنافيَ بَينَ ثُبوتِ الشَّيءِ حَقيقةً وعَدَمِه حُكمًا، كَقُرُباتِ الكُفَّارِ والمُرتَدِّينَ؛ فإنَّها مَوجودةُ حَقيقةً ومَعدومةٌ حُكمًا. والنِّيَّةُ في الصَّلاةِ إلى آخِرِها مَوجودةٌ حُكمًا ومَعدومةٌ حَقيقةً
[2004] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/112)، ((الفروق)) (1/71)، ((الأمنية)) (ص: 59) كلاهما للقرافي، ((الفوائد الجسام)) للبلقيني (ص: 429)، ((القواعد)) للحصني (1/200) و(2/238)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/574). .
قال القَرافيُّ: (شَأنُ الشَّرعِ في التَّقديراتِ: إعطاءُ المَوجودِ حُكمَ المَعدومِ... وإعطاءُ المَعدومِ حُكمَ المَوجودِ)
[2005] ((الذخيرة)) (5/86). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ:
1- قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر باجتِنابِ بَعضِ ما ليسَ بإثمٍ؛ خَشيةً مِنَ الوُقوعِ فيما هو إثمٌ، وذلك هو الاحتياطُ
[2006] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/110). ؛ فقد أعطى حُكمَ المَعدومِ -وهو ما فيه إثمٌ- للمَوجودِ، وهو ما ليسَ بإثمٍ.
2- قال اللهُ تعالى:
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122] .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الآيةِ تَقديرُ العَدَمِ والوُجودِ؛ حَيثُ جَعَلَ اللَّهُ تعالى الحَياةَ مَعَ الكُفرِ مَوتًا، والإيمانَ بَعدَ الكُفرِ حَياةً، مَعَ أنَّ الحَياةَ مَعَ الكُفرِ مَوجودةٌ في الحِسِّ، لكِنَّها مَعَ الشِّركِ صارَت في حُكمِ العَدَمِ
[2007] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/663). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
أوَّلًا: مِن أمثِلةِ إعطاءِ المَعدومِ حُكمَ المَوجودِ:
1- إيمانُ الصِّبيانِ في وقتِ الطُّفولةِ؛ فإنَّهم لم يَتَّصِفوا به حَقيقةً، وإنَّما قُدِّرَ وُجودُه، وأُجريَ على ذلك المَوجودِ المُقدَّرِ أحكامُ الإيمانِ، وكذلك تَقديرُ الإيمانِ في حَقِّ البالِغينَ إذا غَفلوا عنه أو زالَ إدراكُهم بنَومٍ أو إغماءٍ أو جُنونٍ. وكذلك تَقديرُ الكُفرِ في أولادِ الكُفَّارِ، مَعَ أنَّهم لا يَتَعَقَّلونَ إيمانًا ولا كُفرًا، وتَجري عليهم في الدُّنيا أحكامُ آبائِهم
[2008] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/112)، ((الأمنية)) للقرافي (ص: 55). .
2- تَقديرُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ في عُروضِ التِّجارةِ؛ فإنَّه لو مَلَكَ نِصابًا مِنَ الذَّهَبِ أوِ الفِضَّةِ سِتَّةَ أشهرٍ ثُمَّ اشتَرى بها عُروضًا للتِّجارةِ، ومَضى على العُروضِ سِتَّةُ أشهُرٍ، فإنَّ الزَّكاةَ تَلزَمُه؛ تَقديرًا لبَقاءِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ في العُروضِ
[2009] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/115). .
3- البَيعُ قد يَكونُ مُقابَلةَ عَينٍ بعَينٍ، وقد يَكونُ مُقابَلةَ عَينٍ بدَينٍ، وقد يُقابَلُ الدَّينُ بالدَّينِ ثُمَّ يَقَعُ التَّقابُضُ في المَجلِسِ، وكِلاهما عِندَ العَقدِ مَعدومٌ
[2010] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/116)، ((القواعد)) للحصني (2/238). .
4- المَنافِعُ المَعقودُ عليها في الإجارةِ مَعدومةٌ، فتُنَزَّلُ مَنزِلةَ المَوجودِ، ونَجعَلُها كالمَوجودِ ونورِدُ العَقدَ عليها
[2011] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/1251)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/111). .
ثانيًا: مِن أمثِلةِ إعطاءِ المَوجودِ حُكمَ المَعدومِ:1- الماءُ في حَقِّ المَريضِ عِندَ الخَوفِ من استِعمالِه فواتَ عُضوٍ أو مَنفعةٍ، فإنَّه يُباحُ له التَّيَمُّمُ، ويُجعَلُ الماءُ كالمَعدومِ
[2012] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/115)، ((القواعد)) للحصني (1/200) و(2/239). .
2- النَّجاساتُ والأحداثُ المَعفوُّ عنها في الصَّلاةِ لتَعَذُّرِ الاحتِرازِ مِنها -كصاحِبِ السَّلَسِ، والدُّمَّلِ، والجُروحِ- مَعدودةٌ كُلُّها في حُكمِ العَدَمِ، وإلَّا لَمَا صَحَّتِ الصَّلاةُ، ولوَقَع النَّاسُ في الحَرَجِ
[2013] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/664). .
3- مَن مَعَه نِصابٌ حالَ عليه الحَولُ، وهو يَحتاجُه لقَضاءِ دَينِه، يُقَدَّرُ مَعدومًا ولا زَكاةَ عليه
[2014] يُنظر: ((الأمنية)) للقرافي (ص: 56)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/472). .
4- الغَرَرُ اليَسيرُ في العُقودِ -نَحوَ الجَهلِ بأساسِ البِناءِ، ورَداءةِ بَواطِنِ الفواكِهِ- مَعفوٌّ عنه، ومَعدودٌ في حُكمِ العَدَمِ، ولَو لم يُقَدَّرْ كذلك لامتَنَعَ البَيعُ والشِّراءُ، ووقَعَ النَّاسُ في الحَرَجِ
[2015] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/663). .