موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: للشَّرعِ وِلايةٌ أن يَجعَلَ المَعدومَ حَقيقةً مَوجودًا حُكمًا لحاجةِ النَّاسِ إليه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "للشَّرعِ وِلايةٌ أن يَجعَلَ المَعدومَ حَقيقةً مَوجودًا حُكمًا لحاجةِ النَّاسِ إليه" [2016] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/108). . وصيغةِ: "للشَّارِعِ وِلايةُ جَعْلِ المَعدومِ حَقيقةً مَوجودًا" [2017] يُنظر: ((تكملة فتح القدير)) لقاضي زاده (9/68). . وصيغةِ: "للشَّارِعِ جَعْلُ المَعدومِ حَقيقةً مَوجودًا حُكمًا" [2018] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/107). . وصيغةِ: "جَعلُ المَعدومِ مَوجودًا لحاجةِ ثُبوتِ الأحكامِ" [2019] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (1/745). . وصيغةِ: "قد يُجعَلُ المَعدومُ حَقيقةً مَوجودًا تَقديرًا عِندَ تَحَقُّقِ الحاجةِ والضَّرورةِ" [2020] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/201). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ جَعلَ المَعدومِ في حُكمِ المَوجودِ إنَّما يَكونُ على خِلافِ الأصلِ؛ لضَرورةٍ أو حاجةٍ، وتُعَبِّرُ هذه القاعِدةُ عن رَفعِ الحَرَجِ عنِ المُكَلَّفينَ؛ حَيثُ تَعتَمِدُ على المَصلَحةِ التي تَفوتُ بغَيرِ ذلك التَّقديرِ، وذلك مُقَرَّرٌ في كَثيرٍ مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ لرَفعِ الحَرَجِ عنِ النَّاسِ، فالشَّرعُ يَجعَلُ المَعدومَ حَقيقةً مَوجودًا حُكمًا؛ وذلك مَعهودٌ فيما يُمكِنُ تَقديرُ وُجودِه حَقيقةً؛ لأنَّ الشَّيءَ إنَّما يُقدَّرُ حُكمًا إذا كان يُمكِنُ تَصَوُّرُه حَقيقةً [2021] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/197)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/201)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/108)، ((تكملة فتح القدير)) لقاضي زاده (9/68)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/663). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (يُعطى المَعدومُ حُكمَ المَوجودِ، ويُعطى المَوجودُ حُكمَ المَعدومِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ جَعلَ الشَّارِعِ للمَعدومِ حَقيقةً مَوجودًا حُكمًا هو مِن بابِ إعطاءِ المَعدومِ حُكمَ المَوجودِ؛ حَيثُ يُحكَمُ له كَأنَّه في حُكمِ الوُجودِ؛ لضَرورةٍ تَقتَضي ذلك.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ ما ليسَ عِندَ الإنسانِ؛ فعن حَكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، يَأتيني الرَّجُلُ فيَسألُني البَيعَ ليسَ عِندي، أبيعُه مِنه ثُمَّ أبتاعُه له مِنَ السُّوقِ؟ قال: ((لا تَبِعْ ما ليسَ عِندَك)) [2022] أخرجه أبو داود (3503)، والترمذي (1232)، والنسائي (4613) واللَّفظُ له. صَحَّحه ابنُ العَرَبيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (3/193)، والنووي في ((المجموع)) (9/259)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (99)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/448). .
ورَخَّصَ في السَّلَمِ [2023] السَّلَم: هو بَيعُ مَوصوفٍ في الذِّمَّةِ ببَدَلٍ يُعطى عاجِلًا. يُنظر: ((فقه المعاملات المالية)) للدرر السنية (1/523). ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قَدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ وهم يُسلِفونَ بالتَّمرِ السَّنَتَينِ والثَّلاثَ، فقال: ((مَن أسلَف في شَيءٍ ففي كَيلٍ مَعلومٍ، ووزنٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ )) [2024] أخرجه البخاري (2240) واللفظ له، ومسلم (1604). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَعَلَ المَعدومَ في السَّلَمِ مَوجودًا حُكمًا؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نَهى عن بَيعِ ما ليسَ عِندَ الإنسانِ ورَخَّص في السَّلَمِ، ولِلشَّارِعِ جَعْلُ المَعدومِ حَقيقةً مَوجودًا حُكمًا [2025] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/107). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (يُعطى المَعدومُ حُكمَ المَوجودِ، ويُعطى المَوجودُ حُكمَ المَعدومِ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- جَعْلُ الشَّرعِ النُّطفةَ في الرَّحِمِ -ولا حَياةَ فيها- كالحَيِّ حُكمًا في حَقِّ الأحكامِ مِنَ الوصيَّةِ والإرثِ؛ فإنَّ الحَملَ في بَطنِ أُمِّه يُعطى حُكمَ المَوجودِ الحَيِّ، فلا يُقسَمُ مالُ مُوَرِّثِه حتَّى يولَدَ [2026] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/108،)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/107)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/665). .
2- المَنفعةُ في الإجارةِ وإن كانت مَعدومةً عِندَ العَقدِ حَقيقةً فقد جُعِلَت كالمَوجودةِ حُكمًا بدَليلِ جَوازِ العَقدِ ولُزومِه، وعَقدُ المُعاوضةِ على المَعدومِ لا يَنعَقِدُ، ولِلشَّرعِ وِلايةٌ أن يَجعَلَ المَعدومَ حَقيقةً مَوجودًا حُكمًا لحاجةِ النَّاسِ إليه، وإذا صارَت مَوجودةً حُكمًا التَحَقَت بالمَوجودِ حَقيقةً، فتَصيرُ مَملوكةً بالعَقدِ [2027] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/108). .
3- الجَماعةُ إذا قَتَلوا واحِدًا وتمالؤوا عليه بحَرابةٍ أو غَيرِها، يُقدَّرُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم كَأنَّه باشَرَ قَتلَه، ويُقتَصُّ مِنهم جَميعًا، وهو جَعلُ المَعدومِ حَقيقةً مَوجودًا حُكمًا؛ حتَّى لا يَكونَ تمالؤهم على القَتلِ ذَريعةً للهروبِ مِنَ الحَدِّ أوِ القِصاصِ [2028] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/665). .

انظر أيضا: