موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: التَّداخُلُ يَدخُلُ في ضُروبٍ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "التَّداخُلُ يَدخُلُ في ضُروبٍ" [1886] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/269). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تَتَنَوَّعُ الأحكامُ الشَّرعيَّةُ إلى عِباداتٍ ومُعامَلاتٍ وحُدودٍ وكَفَّاراتٍ وغَيرِها، والتَّداخُلُ بَينَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ يَجري في ضُروبٍ مُتَعَدِّدةٍ؛ أحَدُها: العِباداتُ، كالوُضوءِ إذا تَعَدَّدَت أسبابُه والغُسلِ أيضًا. والثَّاني: الكَفَّاراتُ، كَما لو أفطَرَ في رَمَضانَ في اليَومِ الواحِدِ مِرارًا. والثَّالِثُ: الإتلافاتُ، كَما لو قَتَلَ المُحرِمُ صَيدًا في الحَرَمِ لزِمَه جَزاءٌ واحِدٌ، وتَداخَلَتِ الحُرمَتانِ في حَقِّه؛ لأنَّهما مِن جِنسٍ واحِدٍ. والرَّابِعُ: الحُدودُ والعُقوباتُ إذا كانت مَن جِنسٍ واحِدٍ وتَكَرَّرَت، وهيَ أَولى بالتَّداخُلِ مِن غَيرِها لكَونِها أسبابًا مُهلِكةً مَعَ حُصولِ الزَّجرِ بواحِدٍ مِنها، فلَو زَنا عِدَّةَ مَرَّاتٍ أجزَأه حَدٌّ واحِدٌ عنها، ولَو سَرَقَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ أجزَأه حَدٌّ واحِدٌ عنها. والخامِسُ: الأموالُ، كَدِيةِ الأطرافِ مَعَ النَّفسِ إذا سَرَتِ الجِراحةُ، وغَيرِها، كالعدَدِ، مِمَّا سَيَتَّضِحُ ويَرِدُ ذِكرُه في القَواعِدِ المُندَرِجةِ تَحتَ هذه القاعِدةِ، فيَدخُلُ حينَئِذٍ المُتَقدِّمُ في المُتَأخِّرِ، والمُتَأخِّرُ في المُتَقدِّمِ، والطَّرَفانِ في الوَسَطِ، والقَليلُ في الكَثيرِ، والكَثيرُ في القَليلِ، ويَكفي أحَدُها، وتَبرَأُ ذِمَّةُ المُكَلَّفِ بفِعلِه [1887] يُنظر: ((الذخيرة)) (1/310- 312)، ((الفروق)) (2/30) كلاهما للقرافي، ((المنثور)) للزركشي (1/269- 277). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ والإجماعِ.
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ ذَكَرَت حَدًّا للزَّاني ولَم تُفرِّقْ بَينَ كَونِه مَرَّةً أو أكثَرَ، مَعَ أنَّ سَبَبَ الحَدِّ الإيلاجُ، وهو مُتَكَرِّرٌ في المَرَّةِ الواحِدةِ [1888] يُنظر: ((المعونة على مذهب عالم أهل المدينة)) للقاضي عبد الوهاب (3/1398)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/311). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَطوفُ على نِسائِه بغُسلٍ واحِدٍ )) [1889] أخرجه البخاري (5215)، ومسلم (309) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اكتَفى بغُسلٍ واحِدٍ رَغمَ تَعَدُّدِ الجِماعِ؛ فدَلَّ على تَداخُلِ ما هو مِن جِنسٍ واحِدٍ [1890] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (2/146)، ((الإفصاح)) لابن هبيرة (5/290،289)، ((الكوثر الجاري)) للكوراني (8/525). .
3- مِنَ الإجماعِ:
وقد حَكى ابنُ عَبدِ البَرِّ [1891] قال: (لم يَختَلِفوا فيمن وَطئَ مِرارًا قَبلَ الحَدِّ أنَّه ليسَ عليه إلَّا حَدٌّ واحِدٌ). ((الاستذكار)) (4/143). وابنُ المُنذِرِ [1892] قال: (أجمَعوا أنَّ السَّارِقَ إذا سَرَقَ مَرَّاتٍ إذا قُدِّمَ إلى الحُكَّامِ في آخِرِ السَّرِقاتِ أنَّ قَطعَ يَدِه يُجزِئُ عن ذلك كُلِّهـ). ((الإجماع)) (ص: 116). وقال أيضًا: (وأجمَعَ كُلُّ مَن نَحفظُ عنه مِن أهلِ العِلمِ على أنَّ السَّارِقَ مَرَّاتٍ إذا قُدِّمَ إلى الحاكِمِ في آخِرِ السَّرِقاتِ: أنَّ قَطعَ يَدِه يُجزِئُ مِن ذلك كُلِّه. كذلك قال عَطاءٌ، والزُّهريُّ، ومالِكٌ، وإسحاقُ، وأحمدُ، وأبو ثَورٍ، والنُّعمانُ، ويَعقوبُ. ويُشبِهُ هذا مَذهَبَ الشَّافِعيِّ. والجَوابُ في الرَّجُلِ يَزني مِرارًا، في أنَّ عليه حَدًّا واحِدًا، هكذا). ((الإشراف)) (7/ 211). وابنُ قُدامةَ [1893] قال ابنُ قُدامةَ: (ما يوجِبُ الحَدَّ مِنَ الزِّنا، والسَّرِقةِ، والقَذفِ، وشُربِ الخَمرِ، إذا تَكَرَّرَ قَبلَ إقامةِ الحَدِّ، أجزَأَ حَدٌّ واحِدٌ بغَيرِ خِلافٍ عَلِمناه، قال ابنُ المُنذِرِ: أجمَعَ على هذا كُلُّ مَن نَحفظُ عنه مِن أهلِ العِلمِ؛ مِنهم عَطاءٌ، والزُّهريُّ، ومالِكٌ، وأبو حَنيفةَ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَورٍ، وأبو يوسُفَ. وهو مَذهَبُ الشَّافِعيِّ). ((المغني)) (12/381). وقال ابنُ قدامةَ: (فإن كانت مِن جِنسٍ مِثلُ أن زَنا أو سَرَقَ أو شَرِبَ مِرارًا، أجزَأَ حَدٌّ واحِدٌ)). ((المقنع)) (ص: 432). الإجماعَ على أنَّ ما يوجِبُ الحَدَّ إذا تَكَرَّرَ قَبلَ إقامةِ الحَدِّ، أجزَأَ حَدٌّ واحِدٌ.
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو تَعَدَّدَ السَّهوُ في الصَّلاةِ لم يَتَعَدَّدِ السُّجودُ، بَل تَتَداخَلُ، ويُجزِئُ سَجدَتانِ عنِ الجَميعِ [1894] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (2/272)، ((المنثور)) للزركشي (1/270)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 126)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 112). .
2- مَن جَرَحَ إنسانًا فإنَّه يَجِبُ عليه الدِّيةُ إن كان الجَرحُ مِمَّا لا يُمكِنُ القِصاصُ فيه، أو عَفا الأولياءُ عنِ القِصاصِ إلى الدِّيةِ، فإن سَرى الجَرحُ إلى النَّفسِ فماتَ المَجروحُ فلا تَلزَمُ الجانيَ إلَّا ديةُ النَّفسِ، وتَتَداخَلُ ديةُ الأطرافِ مَعَ دِيَةِ النَّفسِ [1895] يُنظر: ((مختصر المزني)) (2/352)، ((المحلى)) لابن حزم (1/292)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/252)، ((المغني)) لابن قدامة (12/153). .

انظر أيضا: