موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: حُقوقُ العِبادِ لا تَتَداخَلُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "حُقوقُ العِبادِ لا تَتَداخَلُ" [1875] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/5)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/181). ويُنظر أيضًا: ((التهذيب)) للبغوي (6/206)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/74). ، وبصيغةِ: "حُقوقُ الآدَميِّينَ لا تَتَداخَلُ" [1876] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/144)، ((بحر المذهب)) للروياني (11/238). ، و"حُقوقُ الآدَميِّينَ إذا أمكَنَ استيفاؤُها لم تَتَداخَلْ" [1877] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/119). ، وبصيغةِ: "حُقوقُ العَبدِ لا تَحتَمِلُ التَّداخُلَ" [1878] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/65). ، و"حُقوقُ الآدَميِّينَ تُستَوفى كُلُّها" [1879] يُنظر: ((الممتع في شرح المقنع)) لابن المنجي (4/228). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
لمَّا كان التَّداخُلُ عِبارةً عن تَرتيبِ أثَرٍ واحِدٍ على شَيئَينِ مُختَلِفينِ، وكانت حُقوقُ الآدَميِّينَ مَبنيَّةً على الشُّحِّ بخِلافِ حُقوقِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، لم تَكُنْ مُحتَمِلةً للتَّداخُلِ، فإذا ثَبَتَ حَقٌّ لآدَميٍّ لم يَتَداخَلْ مَعَ حَقٍّ آخَرَ فلا يَسقُطُ حَقُّ آدَميٍّ بحَقِّ آدَميٍّ آخَرَ، بَل تُستَوفى الحُقوقُ كُلُّها، كَما لا يَنوبُ بَعضُها عن بَعضٍ؛ لِما فيه مِنَ الظُّلمِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ تَطبيقًا لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ التَّداخُلِ) [1880] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/5)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/144)، ((بحر المذهب)) للروياني (11/238)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/181)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/437). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ في قاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ التَّداخُلِ) ويُضافُ إليها مِنَ الأثَرِ:
أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (أيُّما امرَأةٍ نَكَحَت في عِدَّتِها فإن كان زَوجُها الذي تَزَوَّجَ بها لم يَدخُلْ بها فُرِّقَ بَينَهما ثُمَّ اعتَدَّت بَقيَّةَ عِدَّتِها مِن زَوجِها الأوَّلِ، وكان خاطِبًا مِنَ الخُطَّابِ، وإن كان دَخَل بها فُرِّقَ بَينَهما ثُمَّ اعتَدَّت بَقيَّةَ عِدَّتِها مِن زَوجِها الأوَّلِ، ثُمَّ اعتَدَّت مِنَ الآخَرِ، ثُمَّ لم يَنكِحْها أبَدًا) [1881] أخرجه مالك (3/768)، والشافعي في ((الأم)) (6/589)، والبيهقي (15631) واللفظ له صَحَّحه الألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (2125)، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ كَثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/235)، وذكر العيني في ((نخب الأفكار)) (15/512) أنَّه ورد مِن طَريقَينِ صَحيحَينِ .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه حَكَم بعِدَّتَينِ، لكُلِّ واحِدٍ عِدَّةٌ مُنفرِدةٌ، ولَم يَحكُمْ بعِدَّةٍ واحِدةٍ؛ رِعايةً لحُقوقِ كُلِّ فَردٍ [1882] يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويهـ)) (4/1613)، ((الخلافيات)) للبيهقي (6/440). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا قَطَعَ أحَدَ إصبَعِ رَجُلٍ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ، وذلك كُلُّه في اليُمنى؛ فإنَّه تُقطَعُ إصبَعُه مِنَ اليَدِ اليُمنى استيفاءً لحَقِّ الرَّجُلِ الأوَّلِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صاحِبُ الحَقِّ الثَّاني الذي قُطِعَت يَدُه اليُمنى بَينَ الدِّيةِ وبَينَ القِصاصِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، ولا تَتَداخَلُ الحُقوقُ؛ لأنَّ حُقوقَ العِبادِ لا تَحتَمِلُ التَّداخُلَ [1883] يُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء)) للجصاص (5/145). .
2- إذا قَتَلَ الواحِدُ جَماعةً إمَّا في حالٍ واحِدةٍ بأن ألقى عليهم حائِطًا، أو ألقاهم في نارٍ، أو غَرَّقَهم في سَفينةٍ، أو ألقى عليهم قَذيفةً أو قُنبُلةً، أو قَتلَهم في أوقاتٍ شَتَّى واحِدًا بَعدَ واحِدٍ، فلا تَتَداخَلُ حُقوقُهم عِندَ الشَّافِعيَّةِ والحَنابِلةِ، ووجَبَ عِندَ الشَّافِعيَّةِ أن يُقتَلَ بأحَدِهم، وتُؤخَذَ مِن مالِه دياتُ الباقينَ، وعِندَ الحَنابِلةِ: إنِ اتَّفقَ أولياؤُهم على قَتلِه قُتِلَ، وإن أرادَ أحَدُهمُ القَوَدَ، والآخَرُ الدِّيةَ، قُتِلَ لمَنِ اختارَ القَوَدَ، وأعطى أولياءَ الثَّاني الدِّيةَ مِن مالِه [1884] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/119)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (11/86)، ((المغني)) لابن قدامة (11/526). وأمَّا عِندَ الحَنَفيَّةِ والمالِكيَّةِ: إذا قَتَلَ واحِدٌ جَماعةً فحَضَرَ أولياءُ المَقتولينَ، قُتِلَ بجَماعَتِهم، ولا شَيءَ لهم غَيرُ ذلك، فإن حَضَر واحِدٌ قُتِلَ له وسَقَطَ حَقُّ الباقينَ. يُنظَرُ: ((مختصر القدوري)) (ص: 185)، ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (23/911). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ:
تَدخُلُ الأطرافُ في حُكمِ النَّفسِ، فمَن قَطَع يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَه، دَخَلَت ديةُ يَدِه في ديةِ نَفسِه عِندَ الشَّافِعيَّةِ [1885] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (10/64)، ((بحر المذهب)) للروياني (12/43،42). .

انظر أيضا: