المَطلَبُ الرَّابعُ: حُكمُ الاستِدلالِ بسَدِّ الذَّرائِعِ
أصلُ الاستِدلالِ بسَدِّ الذَّرائِعِ مَحَلُّ اتِّفاقٍ بَينَ العُلَماءِ فيما لو ورَدَ نَصٌّ في شَأنِ الوسيلةِ، أو أدَّت إلى المَفسَدةِ قَطعًا ولم تَكُن مَصلَحَتُها أرجَحَ مِن مَفسَدَتِها، ومِمَّن ذَكَرَ هذا الاتِّفاقَ: القَرافيُّ
، والشَّاطِبيُّ
.
وقال الزَّركَشيُّ: (قال القُرطُبيُّ: وسَدُّ الذَّرائِعِ ذَهَبَ إليه مالِكٌ وأصحابُه، وخالفه أكثَرُ النَّاسِ تَأصيلًا، وعَمِلوا عليه في أكثَرِ فُروعِهم تَفصيلًا)
.
وقال ابنُ القَيِّمِ: (بابُ سَدِّ الذَّرائِعِ أحَدُ أرباعِ التَّكليفِ؛ فإنَّه أمرٌ ونَهيٌ، والأمرُ نَوعانِ؛ أحَدُهما: مَقصودٌ لنَفسِه، والثَّاني: وسيلةٌ إلى المَقصودِ، والنَّهيُ نَوعانِ؛ أحَدُهما: ما يَكونُ المَنهيُّ عنه مَفسَدةً في نَفسِه، والثَّاني: ما يَكونُ وسيلةً إلى المَفسَدةِ؛ فصارَ سَدُ الذَّرائِعِ المُفضيةِ إلى المُحَرَّمِ أحَدَ أرباع الدِّينِ)
.
والمُختارُ: القَولُ بسَدِّ الذَّرائِعِ وأنَّه حُجَّةٌ ودَليلٌ شَرعيٌّ مُعتَبَرٌ
، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ
، والحَنابِلةِ
، وهو اختيارُ الطُّوفيِّ
، وابنِ القَيِّمِ
، والشَّاطِبيِّ
.
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكَريمِورَدَت عِدَّةُ آياتٍ تَدُلُّ على تَحريمِ أشياءَ مُباحةٍ؛ لكَونِها ذَريعةً إلى مَفسَدةٍ ومُؤَدِّيةً إلى حَرامٍ، ومِن تلك الآياتِ
:
1- قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه مَعَ كَونِ السَّبِّ غَيظًا للكُفَّارِ وإهانةً لآلهَتِهم إلَّا أنَّ اللَّهَ حَرَّمَه لكَونِه ذَريعةً إلى سَبِّهمُ اللَّهَ تعالى، وكانت مَصلحةُ تَركِ مَسَبَّتِه تعالى أرجَحَ مِن مَصلَحةِ سَبِّنا لآلهَتِهم، وهذا كالتَّنبيهِ أوِ التَّصريحِ على المَنعِ مِنَ الجائِزِ؛ لئَلَّا يَكونَ سَبَبًا في فِعلِ ما لا يَجوزُ
.
2- قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى مَنعَهنَّ مِنَ الضَّربِ بالأرجُلِ وإن كان جائِزًا في نَفسِه؛ لئَلَّا يَكونَ سَبَبًا إلى سَمعِ الرِّجالِ صَوتَ الخَلخالِ؛ فيُثيرَ ذلك دَواعيَ الشَّهوةِ مِنهم إليهنَّ
.
3- قَولُ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [البقرة: 104] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى نَهاهم أن يَقولوا هذه الكَلِمةَ -مَعَ قَصدِهم بها الخَيرَ- لئَلَّا يَكونَ قَولُهم ذَريعةً إلى التَّشَبُّهِ باليَهودِ في أقوالِهم وخِطابِهم؛ فإنَّهم كانوا يُخاطَبونَ بها النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَقصِدونَ بها السَّبَّ، فنُهيَ المُسلِمونَ عن قَولِها؛ سَدًّا لذَريعةِ المُشابَهةِ، ولئَلَّا يَكونَ ذلك ذَريعةً إلى أن يَقولَها اليَهودُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَشَبُّهًا بالمُسلِمينَ، فيَقصِدونَ بها غَيرَ ما يَقصِدُه المُسلِمونَ
.
4- قَولُ اللهِ تعالى:
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إلى قَولِه:
يَفْسُقُونَ [الأعراف: 163] ، وقَولُه تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة: 65] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى ذَمَّهم بكَونِهم تَذَرَّعوا للصَّيدِ يَومَ السَّبتِ المُحَرَّمِ عليهم بحَبسِ الصَّيدِ يَومَ الجُمُعةِ
.
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِورَدَت أحاديثُ عَديدةٌ تَدُلُّ على سَدِّ بابِ الذَّريعةِ المُفضيةِ إلى الحَرامِ، ومِن تلك الأحاديثِ
:
1- قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لعنَ اللهُ اليَهودَ؛ حُرِّمَت عليهمُ الشُّحومُ، فباعوها وأكَلوا أثمانَها))
.
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ تَوعَّدَ بالعِقابِ مَن يَحتالُ إلى المَمنوعِ بفِعلٍ جائِزٍ، فدَلَّ ذلك على تَحريمِ الفِعلِ الجائِزِ إذا كان يُتَوسَّلُ به إلى مَمنوعٍ، وهذا هو عَينُ سَدِّ الذَّرائِعِ
.
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مِنَ الكَبائِرِ شَتمُ الرَّجُلِ والِدَيه، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وهَل يَشتُمُ الرَّجُلُ والدَيه؟! قال: نَعَم، يَسُبُّ أبا الرَّجُلِ فيَسُبُّ أباه، ويَسُبُّ أُمَّه فيَسُبُّ أُمَّهـ))
.
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَعَل الرَّجُلَ سابًّا لاعِنًا لأبَوَيه بتسبُّبِه إلى ذلك وتَوسُّلِه إليه وإن لم يَقصِدْه
.
3- لمَّا قال عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ: واللهِ لئِن رَجَعْنا إلى المَدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ، فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: دَعْني يا رَسولَ اللهِ أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ! قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((دَعْه، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أصحابَهـ))
.
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَكُفُّ عن قَتلِ المُنافِقينَ -مَعَ كَونِه مَصلَحةً- لئَلَّا يَكونَ ذَريعةً إلى تَنفيرِ النَّاسِ عنه، وقَولِهم: إنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أصحابَه؛ فإنَّ هذا القَولَ يوجِبُ النُّفورَ عنِ الإسلامِ مِمَّن دَخَل فيه ومِمَّن لم يَدخُلْ فيه، ومَفسَدةُ التَّنفيرِ أكبَرُ مِن مَفسَدةِ تَركِ قَتلِهم، ومَصلَحةُ التَّأليفِ أعظَمُ مِن مَصلَحةِ القَتلِ
.
4- قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((لولا قَومُكِ حَديثو عَهدٍ بكُفرٍ لنَقَضتُ الكَعبةَ فجَعَلتُ لها بابَينِ: بابٌ يَدخُلُ مِنه النَّاسُ، وبابٌ يَخرُجونَ))
.
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ نَقضَ الكَعبة ورَدَّها إلى ما كانت عليه مِن قَواعِدِ إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَصلَحةٌ، ولكِن تُعارِضُه مَفسَدةٌ أعظَمُ مِنه، وهيَ خَوفُ فِتنةِ بَعضِ مَن أسلَمَ قَريبًا، وذلك لِما كانوا يَعتَقِدونَه مِن فَضلِ الكَعبةِ، فيَرَونَ تَغييرَها عَظيمًا؛ فتَرَكَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
.
ثالثًا: أنَّه ثَبَتَ في عِدَّةِ وقائِعَ أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهمُ استَدَلُّوا بسَدِّ الذَّرائِعِ؛ مِن ذلك: قول أبي مسعودٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه: (إني لأدعُ الأضحى، وإني لموسِر مخافةَ أنْ يرى جيراني أنَّه حتمٌ عليَّ)
والصَّحابةُ اتَّفَقوا على قَتلِ الجَميعِ بالواحِدِ وإن كان أصلُ القِصاصِ يَمنَعُ ذلك؛ لئَلَّا يَكونَ عَدَمُ القِصاصِ ذَريعةً إلى التَّعاوُنِ على سَفكِ الدِّماءِ
.
قال الشَّاطبيُّ: (قاعِدةُ سَدِّ الذَّرائِعِ إنَّما عَمِلَ السَّلَفُ بها بناءً على هذا المعنى؛ كعَمَلِهم في تَركِ الأُضحيَّةِ مع القُدرةِ عليها، وكإتمامِ عُثمانَ الصَّلاةَ في حَجِّه بالنَّاسِ، وتسليمِ الصَّحابةِ له في عُذرِه الذي اعتذَر به مِن سَدِّ الذَّريعةِ، إلى غيرِ ذلك من أفرادِها التي عَمِلوا بها)
.
رابعًا: مِنَ المَعقولِأنَّ الشَّارِعَ لو أباحَ الوسائِلَ والذَّرائِعَ المُفضيةَ إلى الحَرامِ لكان ذلك نَقضًا للتَّحريمِ، وإغراءً للنُّفوسِ به، وحِكمَتُه تعالى تَأبى ذلك، بَل سياسةُ مُلوكِ الدُّنيا تَأبى ذلك؛ فإنَّ أحَدَهم إذا مَنَعَ جُندَه أو رَعيَّتَه أو أهلَ بَيتِه مِن شَيءٍ، ثُمَّ أباحَ لهمُ الطُّرُقَ والأسبابَ والذَّرائِعَ الموصِلةَ إليه، لعُدَّ مُتَناقِضًا، ويَحصُلُ مِن جُندِه ورَعيَّتِه ضدُّ مَقصودِه، وكذلك الأطِبَّاءُ إذا أرادوا حَسمَ الدَّاءِ مَنَعوا صاحِبَه مِنَ الطُّرُقِ والذَّرائِعِ الموصِلةِ إليه، وإلَّا فسَدَ عليهم ما يَرومونَ إصلاحَه، والظَّنُّ بهذه الشَّريعةِ الكامِلةِ التي هيَ في أعلى دَرَجاتِ الحِكمةِ والمَصلَحةِ والكَمالِ مُراعاةُ ذلك
.
وقيل: إنَّ سَدَّ الذَّرائِعِ ليس بحُجَّةٍ، وهو قَولٌ مَنسوبٌ إلى الشَّافِعيِّ
، واختارَه ابنُ حَزمِ الظَّاهِريِّ
.