المَسألةُ الثَّانيةُ: إذا قال الصَّحابيُّ قَولًا ولم يَشتَهِرْ رَأيُه بَينَ الصَّحابةِ ولا خالفَه أحَدٌ مِنهم
اختَلف الأُصوليُّونَ فيما إذا قال الصَّحابيُّ قَولًا ولم يَشتَهِرْ رَأيُه بَينَ الصَّحابةِ ولا خالفَه أحَدٌ مِنهم، وذلك على أقوالٍ، مِنها:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّه ليس بحُجَّةٍ، وهو اختيارُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ، ومِنهم أبو سَعيدٍ البَرْدَعيُّ
، والشَّافِعيُّ في الجَديدِ
، واختارَه مِنَ الشَّافِعيَّةِ: الآمِديُّ
، وأبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ
، والغَزاليُّ
، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ
، ومِمَّنِ اختارَه مِنَ الحَنابلةِ ابنُ عَقيلٍ
.
واستَدَلُّوا على ذلك بما يَلي:أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ1- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أمَرَ بالاعتِبارِ، وذلك يُنافي جَوازَ التَّقليدِ
.
2- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أوجَبَتِ الآيةُ الرَّدَّ عِندَ الاختِلافِ إلى اللهِ تعالى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلو كان الرَّدُّ إلى قَولِ الصَّحابيِّ أو مَذهَبِه مِن مَدارِكِ الأحكامِ لذَكَرَته الآيةُ، وإلَّا لزِمَ تَأخيرُ البَيانِ عن وَقتِ الحاجةِ، ولأنَّ الرَّدَّ إلى الصَّحابيِّ تَركٌ للرَّدِّ إلى اللهِ ورَسولِه، فيَكونُ تَركًا للواجِبِ، فلم يَكُنْ جائِزًا فَضلًا عن أن يَكونَ واجِبًا
.
ثانيًا: الإجماعُاتَّفقَ الصَّحابةُ على جَوازِ مُخالَفةِ كُلِّ واحِدٍ مِن آحادِ الصَّحابةِ، ومِمَّن نَقَل الاتِّفاقَ على ذلك: الغَزاليُّ
، والرَّازيُّ
، فلم يُنكِرْ أبو بَكرٍ وعُمَرُ رضِيَ اللهُ عنهما على مَن خالفَهما، ولا كُلُّ واحِدٍ مِنهما على صاحِبِه فيما اختَلفا فيه، بَل أوجَبوا في مَسائِلِ الاجتِهادِ على كُلِّ مُجتَهِدٍ أن يَتبَعَ اجتِهادَ نَفسِه
.
ثالثًا: أنَّ التَّابعيَّ والصَّحابيَّ مُتَساويانِ في آلةِ الاجتِهادِ وجَوازِ الخَطَأِ على كُلِّ واحِدٍ مِنهما، فلا يَجوزُ لأحَدِهما تَركُ اجتِهادِه لقَولِ الآخَرِ، كالصَّحابيَّينِ والتَّابعيَّينِ
.
رابعًا: لو كان قَولُه حُجَّةً لدَعا النَّاسَ إلى قَولِه، كالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكالأُمَّةِ لمَّا كان إجماعُهم حُجَّةً دَعَوا سائِرَ الأُمَمِ إلى ما أجمَعوا عليه
.
خامِسًا: أنَّه قَولُ عالمٍ يَجوزُ عليه الخَطَأُ، فلم يَكُنْ حُجَّةً، كقَولِ التَّابِعينَ
، وبَيانُه أنَّ الصَّحابيَّ غَيرُ مَعصومٍ عنِ الخَطَأِ، واحتِمالُ الخَطَأِ في اجتِهادِه قائِمٌ، واحتِمالُ أنَّه قال ذلك باجتِهادِه ثابتٌ، فلا يَلزَمُ تَقليدُه؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى مَتى نَصَبَ الأماراتِ على الأحكامِ فقد كَلَّف المُجتَهِدَ بالاستِدلالِ بها، ولا يَختَصُّ ذلك ببَعضِ المُجتَهِدينَ دونَ البَعضِ؛ فيَجِبُ على كُلِّ مُجتَهِدٍ العَمَلُ باجتِهادِه، وذلك يَمنَعُ مِن تَقليدِ غَيرِه
.
القَولُ الثَّاني: أنَّه حُجَّةٌ، وهو اختيارُ مُعظَمِ الحَنَفيَّةِ، ومِنهمُ الجَصَّاصُ
، وبَدرُ الدِّينِ العَينيُّ
، واختارَه مالِكٌ
، واختارَه الشَّافِعيُّ في القديمِ
، والحَنابلةُ، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ
، واختارَه ابنُ تَيميَّةَ
، والطُّوفيُّ
، والسَّعديُّ
، واستَظهَرَه الشِّنقيطيُّ
.
واستَدَلُّوا على ذلك بأدِلَّةٍ، مِنها:أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ مَدَح الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم والتَّابِعينَ لهم بالإحسانِ، وإنَّما استَحَقَّ التَّابعونَ لهمُ المَدحَ باتِّباعِهم لهم بإحسانٍ؛ مِن حَيثُ الرُّجوعُ إلى رَأيِهم دونَ الرُّجوعِ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ إذ لو كان المَدحُ مِن أجلِ رُجوعِهم إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ لكان استِحقاقُ المَدحِ باتِّباعِ الكِتابِ والسُّنَّةِ لا باتِّباعِ الصَّحابةِ، والمَدحُ في الآيةِ لاتِّباعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
.
ثانيًا: الإجماعُأنَّ التَّابعينَ لا يَختَلفونَ في الرُّجوعِ إلى أقوالِ الصَّحابةِ فيما ليس فيه كِتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إجماعٌ، ثُمَّ هذا مَشهورٌ أيضًا في كُلِّ عَصرٍ ولا يَخلو عنه عَصرٌ، فيُستَدَلُّ بأقوالِهم وتُذكَرُ في الكُتُبِ
؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (لم يَزَلْ أهلُ العِلمِ في كُلِّ عَصرٍ ومِصرٍ يَحتَجُّونَ بما هذا سَبيلُه مِن فتاوى الصَّحابةِ وأقوالِهم، ولا يُنكِرُه مُنكِرٌ مِنهم، وتَصانيفُ العُلماءِ شاهِدةٌ بذلك، قال بَعضُ عُلماءِ المالكيَّةِ: أهلُ الأعصارِ مُجمِعونَ على الاحتِجاجِ بما هذا سَبيلُه، وذلك مَشهورٌ في رِواياتِهم وكُتُبِهم ومُناظَراتِهم واستِدلالاتِهم، ويَمتَنِعُ والحالةُ هذه إطباقُ هؤلاء كُلِّهم على الاحتِجاجِ بما لم يَشرَعِ اللهُ ورَسولُه الاحتِجاجَ به، ولا نَصَبَه دَليلًا للأُمَّةِ، فأيُّ كِتابٍ شِئتَ مِن كُتُبِ السَّلَفِ والخَلَفِ المُتَضَمِّنةِ للحُكمِ والدَّليلِ وجَدتَ فيه الاستِدلالَ بأقوالِ الصَّحابةِ، ووجَدتَ ذلك طِرازَها وزينَتَها)
.
ثالثًا: أنَّ الصَّحابيَّ حَضَرَ التَّنزيلَ فعَرَف التَّأويلَ لمُشاهَدَتِه لقَرائِنِ الأحوالِ
.رابعًا: أنَّ قَولَ الصَّحابيِّ إذا انتَشَرَ ولم يُنكِرْ عليه مُنكِرٌ، كان حُجَّةً؛ فكان حُجَّةً مَعَ عَدَمِ الانتِشارِ
.خامِسًا: أنَّ الصَّحابيَّ إذا أفتى فتلك الفتوى التي يُفتي بها لا تَخرُجُ عن سِتَّةِ وُجوهٍ
:1- أن يَكونَ سَمِعَها مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
2- أن يَكونَ سَمِعَها مِمَّن سَمِعَها مِنه.
3- أن يَكونَ فَهِمَها مِن آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ فَهمًا خَفِيَ علينا.
4- أن يَكونَ قدِ اتَّفقَ عليها مَلؤُهم، ولم يُنقَلْ إلينا إلَّا قَولُ المُفتي بها وَحدَه.
5- أن يَكونَ لكَمالِ عِلمِه باللُّغةِ ودَلالةِ اللَّفظِ على الوَجهِ الذي انفرَدَ به عنَّا، أو لقَرائِنَ حاليَّةٍ اقتَرَنَت بالخِطابِ، أو لمَجموعِ أُمورٍ فَهِموها على طولِ الزَّمانِ مِن رُؤيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُشاهَدةِ أفعالِه وأحوالِه وسيرَتِه، وسَماعِ كَلامِه، والعِلمِ بمَقاصِدِه، وشُهودِ تَنزيلِ الوَحيِ ومُشاهَدةِ تَأويلِه بالفِعلِ، فيَكونُ فَهِمَ ما لا نَفهَمُه نحن، وعلى هذه التَّقاديرِ الخَمسةِ تَكونُ فتواه حُجَّةً يَجِبُ اتِّباعُها.
6- أن يَكونَ قد فَهِمَ ما لم يُرِدْه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخطَأ في فَهمِه، والمُرادُ غَيرُ ما فَهِمَه، وعلى هذا التَّقديرِ لا يَكونُ قَولُه حُجَّةً، ومَعلومٌ أنَّ وُقوعَ احتِمالٍ مِن خَمسةٍ أغلَبُ على الظَّنِّ مِن وُقوعِ احتِمالِ واحِدٍ مُعَيَّنٍ؛ إذ يُفيدُ ظنًّا غالبًا قويًّا على أنَّ الصَّوابَ في قَولِه دونَ ما خالفَه مِن أقوالِ مَن بَعدَه، وليسَ المَطلوبُ إلَّا الظَّنَّ الغالِبَ، والعَمَلُ به مُتَعَيَّنٌ.
وقيل: هو حُجَّةٌ فيما لا مَجالَ للاجتِهادِ فيه، وهو اختيارُ أبي الحُسَينِ البَصريِّ
، والأسمَنديِّ
.
وقيل: حُجَّةٌ إن خالَفَ القياسَ
.