المَسألةُ الثَّامِنةُ: التَّعليلُ بالحِكمةِ
الحِكمةُ هيَ: الغايةُ والغَرَضُ مِن الحُكمِ، كدَفعِ المَشَقَّةِ بالنِّسبةِ إلى رُخصِ المُسافِرِ. فإنَّه هو الغايةُ مِن الرُّخَصِ
.
وقد اختَلف الأُصوليُّونَ في التَّعليلِ بالحِكمةِ. والرَّاجِحُ: القَولُ بالتَّفصيلِ بَينَ الحِكمةِ الظَّاهرةِ المُنضَبطةِ، والحِكمةِ الخَفيَّةِ المُضطَرِبةِ، فيَجوزُ التَّعليلُ بالأَولى دونَ الثَّانيةِ.
واختارَه الآمِديُّ
، وابنُ الحاجِبِ
، وصَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ
، وابنُ عبدِ الشَّكورِ
، وصَحَّحه شَمسُ الدِّينِ الأصفَهانيُّ
.
الأَدِلَّةُ:1- أنَّ القُرآنَ وسُنَّةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مملوآنِ مِن تَعليلِ الأحكامِ بالحِكَمِ والمَصالحِ، وتَعليلِ الخَلقِ بهما، والتَّنبيهِ على وُجوهِ الحِكَمِ التي لأجلِها شَرَع اللهُ تلك الأحكامَ، ولأجلِها خَلَق تلك الأعيانَ. وهذا في القُرآنِ والسُّنَّةِ يَزيدُ على ألفِ مَوضِعٍ بطُرُقٍ مُتَنَوِّعةٍ.
ولا يُمكِنُ لفقيهٍ أن يَتَكَلَّمَ في الفِقهِ مَعَ اعتِقادِه بُطلانَ الحِكمةِ والمُناسَبةِ والتَّعليلِ، وقَصْدِ الشَّارِعِ بالأحكامِ مَصالِحَ العِبادِ
.
2- الإجماعُ على أنَّ الحُكمَ إذا اقتَرَنَ بوصفٍ ظاهرٍ مُنضَبطٍ مُشتَمِلٍ على حِكمةٍ غَيرِ مُنضَبطةٍ بنَفسِها أنَّه يَصِحُّ التَّعليلُ به وإن لم يَكُنْ هو المَقصودَ مِن شَرعِ الحُكمِ، بَل ما اشتَمَل عليه مِن الحِكمةِ الخَفيَّةِ، فإذا كانت الحِكمةُ -وهيَ المَقصودُ مِن شَرعِ الحُكمِ- مُساويةً للوَصفِ في الظُّهورِ والانضِباطِ كانت أَولى بالتَّعليلِ بها
.
وأمَّا إذا كانت الحِكمةُ خَفيَّةً مُضطَرِبةً غَيرَ مُنضَبطةٍ فيَمتَنِعُ التَّعليلُ بها؛ لثَلاثةِ أوجُهٍ:الأوَّلُ: أنَّها إذا كانت خَفيَّةً مُضطَرِبةً مُختَلِفةً باختِلافِ الصُّوَرِ والأشخاصِ والأزمانِ والأحوالِ، فلا يُمكِنُ مَعرِفةُ ما هو مَناطُ الحُكمِ مِنها والوُقوفُ عليه إلَّا بعُسرٍ وحَرَجٍ، ودَأبُ الشَّارِعِ فيما هذا شَأنُه رَدُّ النَّاسِ فيه إلى المَظانِّ الظَّاهرةِ الجَليَّةِ؛ دَفعًا للعُسرِ عن النَّاسِ والتَّخَبُّطِ في الأحكامِ؛ ولهذا فالشَّارِعُ قَضى بالتَّرَخُّصِ في السَّفَرِ؛ دَفعًا للمَشَقَّةِ المَضبوطةِ بالسَّفَرِ الطَّويلِ إلى مَقصَدٍ مُعَيَّنٍ، ولم يُعَلِّقْها بنَفسِ المَشَقَّةِ، لمَّا كانت مِمَّا يَضطَرِبُ ويَختَلفُ؛ ولهذا فإنَّه لم يُرَخِّصْ للحَمَّالِ المَشقوقِ عليه في الحَضَرِ، وإن ظَنَّ أنَّ مَشَقَّتَه تَزيدُ على مَشَقَّةِ المُسافِرِ، وإن كان في غايةِ الرَّفاهيةِ والدَّعةِ؛ لمَّا كان ذلك مِمَّا يَختَلفُ ويَضطَرِبُ
.
الثَّاني: أنَّ الإجماعَ مُنعَقِدٌ على صِحَّةِ تَعليلِ الأحكامِ بالأوصافِ الظَّاهرةِ المُنضَبطةِ المُشتَمِلةِ على احتِمالِ الحُكمِ، كتَعليلِ وُجوبِ القِصاصِ بالقَتلِ العَمدِ العُدوانِ؛ لحِكمةِ الزَّجرِ أو الجَبرِ، وتَعليلِ صِحَّةِ البَيعِ بالتَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِن الأهلِ في المَحَلِّ؛ لحِكمةِ الانتِفاعِ، وتَعليلِ تَحريمِ شُربِ الخَمرِ وإيجابِ الحَدِّ به؛ لحِكمةِ دَفعِ المَفسَدةِ النَّاشِئةِ مِنه، ونَحوِه، ولو كان التَّعليلُ بالحِكمةِ الخَفيَّةِ مِمَّا يَصِحُّ لما احتيجَ إلى التَّعليلِ بضَوابطِ هذه الحِكَمِ والنَّظَرِ إليها؛ لعَدَمِ الحاجةِ إليها، ولِما فيه مِن زيادةِ الحَرَجِ بالبَحثِ عن الحِكمةِ وعن ضابطِها مَعَ الاستِغناءِ بأحَدِهما
.
الثَّالثُ: أنَّ التَّعليلَ بالحِكمةِ المُجَرَّدةِ إذا كانت خَفيَّةً مُضطَرِبةً مِمَّا يُفضي إلى العُسرِ والحَرَجِ في حَقِّ المُكَلَّفِ بالبَحثِ عنها والاطِّلاعِ عليها، والحَرَجُ مَنفيٌّ بقَولِ اللهِ تعالى:
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] بخِلافِ التَّعليلِ بالوَصفِ الظَّاهرِ المُنضَبطِ؛ لكَونِ المَشَقَّةِ فيه أدنى، فبَقيَ العَمَلُ بعُمومِ النَّصِّ فيما عَداه
.
وقيل: يَمتَنِعُ التَّعليلُ بالحِكمةِ. وهو قَولُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ، نَسَبَه إليهم الآمِديُّ
، وبه قال الكَرخيُّ
وغَيرُه
.
واشتَرَطوا أن تَكونَ العِلَّةُ وَصفًا ضابطًا لحِكمةٍ، لا أن تَكونَ حِكمةً مُجَرَّدةً؛ لأنَّ الحِكمةَ المُجَرَّدةَ خَفيَّةٌ أو غَيرُ مُنضَبِطةٍ. والوَصفُ الضَّابطُ للحِكمةِ، كالسَّفرِ الطَّويلِ إلى مَقصَدٍ مُعَيَّنٍ، فإنَّه ضابطٌ لدَفعِ المَشَقَّةِ
.
وقيل: يَجوزُ التَّعليلُ بالحِكمةِ مُطلقًا. وممَّن اختارَه الرَّازيُّ
، والبَيضاويُّ
.