المَسألةُ التَّاسِعةُ: التَّعليلُ بالوَصفِ المُرَكَّبِ
العِلَّةُ ذاتُ الوَصفِ المُرَكَّبِ: هيَ العِلَّةُ المُرَكَّبةُ مِن أوصافٍ مُتَعَدِّدةٍ
.
ومَعنى التَّعليلِ بها هنا أنَّه لا بُدَّ لثُبوتِ الحُكمِ مِن اجتِماعِ تلك الأوصافِ
.
وإذا زال وصفٌ واحِدٌ مِن العِلَّةِ المُرَكَّبةِ مِن الأوصافِ فإنَّ ذلك يَتَضَمَّنُ انتِفاءَ الحُكمِ؛ لاختِلالِ العِلَّةِ؛ إذ هيَ مُرَكَّبةٌ، وشَرطُها تَكامُلُ أوصافِها
.
ومِثالُها: تَعليلُ القَطعِ في السَّرِقةِ؛ فإنَّ عِلَّتَه ذاتُ أوصافٍ، وهيَ أنَّه سَرَقَ نِصابًا مِن حِرزٍ مِثلِه لا شُبهةَ له فيه، وهو مِن أهلِ القَطعِ
.
وكذلك: تَعليلُ وُجوبِ القِصاصِ بالقَتلِ بالمُحَدَّدِ مِن الخَشَبِ بأنَّه قَتلُ عَمدٍ عُدوانٌ مَحضٌ، فيَكونُ موجِبًا للقِصاصِ، كالقَتلِ بالسَّيفِ
.
ففي هَذَينِ المِثالينِ لو نَقَصَ جُزءٌ لم تُؤَثِّرْ تلك العِلَّةُ؛ إذ المُرَكَّبُ يَنعَدِمُ بانعِدامِ جُزءٍ مِنه
.
حُكمُ التَّعليلِ بالوصفِ المُرَكَّبِ:يَجوزُ التَّعليلُ بالوصفِ المُرَكَّبِ مِن أوصافٍ، فيَجوزُ أن تَكونَ العِلَّةُ ذاتَ وَصفٍ واحِدٍ أو وصفَينِ أو ثَلاثةٍ أو أكثَرَ مِن ذلك، ولا يَنحَصِرُ ذلك بعَدَدٍ، وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ، ومِمَّن نَسَبَه إليهم: الرَّازيُّ
، والقَرافيُّ
، والصَّفيُّ الهِنديُّ
، وعَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ
، والزَّركَشيُّ
، وابنُ النَّجَّار
.
الأدِلَّةُ على جَوازِ التَّعليلِ بالوَصفِ المُرَكَّبِ:1- أنَّ الاعتِبارَ بما يَدُلُّ عليه الدَّليلُ، والتَّعليلُ بالوَصفِ المُرَكَّبِ قد وقَعَ في أحكامِ الشَّريعةِ، فلا سَبيلَ إلى إنكارِه؛ فإنَّ استِقراءَ الشَّرعِ يَدُلُّ عليه، ومِن ذلك: كَونُ القِصاصِ واجِبًا في القَتلِ العَمدِ العُدوانِ دونَ الخَطَأِ، ولا يُمكِنُ أن يُستَنبَطَ مِنه عِلَّةٌ بَسيطةٌ نَحوَ القَتلِ وَحدَه، أو العَمديَّةِ وَحدَها، أو العُدوانيَّةِ وَحدَها. وكذلك كَونُ الرِّبا جاريًا في المَطعومِ بجِنسِه، أو في المَكيلِ، أو المَوزونِ بجِنسِه، لا يُمكِنُ أن يُجعَلَ أحَدُ الوصفينِ عِلَّةً مُستَقِلَّةً لذلك، بَل مَجموعُ الوصفَينِ أو أحَدُهما بشَرطِ الآخَرِ.
وهَكَذا نَجِدُ أنَّ أكثَرَ أحكامِ الشَّرعِ غَيرُ ثابتٍ على إطلاقِها، بَل بقُيودٍ مُعتَبَرةٍ فيها، واستِنباطُ العِلَّةِ البَسيطةِ مِن مِثلِ هذه الأحكامِ غَيرُ مُمكِنٍ، فيَلزَمُ المَصيرُ إمَّا إلى كونِ تلك الأحكامِ تَعَبُّديَّةً، وهو على خِلافِ الأصلِ، أو تَجويزِ استِخراجِ العِلَّةِ المُرَكَّبةِ، وهو المَطلوبُ
.
2- أنَّ ما يَدُلُّ على عِلِّيَّةِ الوَصفِ مِن الدَّوَرانِ، والسَّبرِ والتَّقسيمِ، والمُناسَبةِ مَعَ الاقتِرانِ، لا يَختَصُّ بمُفرَدٍ، بَل دَلالتُه عليه وعلى المُرَكَّبِ على حَدٍّ سَواءٍ، وإذا كان كذلك فلا يَمتَنِعُ أن يَدُلَّ شَيءٌ مِن ذلك على أنَّ الوَصفَ المُرَكَّبَ عِلَّةُ الحُكمِ كما في المُفرَدِ
.
3- أنَّ المَصلَحةَ قد لا تَحصُلُ إلَّا مَعَ التَّركيبِ، فإنَّ الوَصفَ الواحِدَ قد يَقصُرُ كوَصفِ الزِّنا؛ فإنَّه لا يَستَقِلُّ بمُناسَبةِ وُجوبِ الحَدِّ حتَّى يَنضافَ إليه أن يَكونَ الواطِئُ عالِمًا بكَونِ المَوطوءةِ أجنَبيَّةً، فلو جُهِل ذلك لم يُناسِبْ وُجوبَ الحَدِّ، وكذلك القَتلُ وَحدَه لا يُناسِبُ وُجوبَ القِصاصِ حتَّى يَنضافَ إليه العَمدُ العُدوانُ
.
وقيل: لا يَجوزُ، ويَنبَغي أن تَكونَ العِلَّة وصفًا واحِدًا. وهو قَولٌ لبَعضِ الأُصوليِّينَ، ومِمَّن نَسَبَه إليهم دونَ تَسميةٍ: الرَّازيُّ
، والصَّفيُّ الهِنديُّ
، وابنُ السُّبكيِّ
واللَّكْنَويُّ
.
وقيل: يَجوزُ بشَرطِ ألَّا تَزيدَ على خَمسةِ أوصافٍ. وهو قَولٌ لبَعضِ الفُقَهاءِ، ومِمَّن نَسَبَه إليهم دونَ تَسميةٍ: الشِّيرازيُّ
.