موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الأولى: تَعريفُ العِلَّةِ


أوَّلًا: تَعريفُ العِلَّةِ لُغةً
العِلَّةُ: هيَ اسمٌ لِما يَتَغَيَّرُ الشَّيءُ بحُصولِه، والعِلَّةُ: المَرَضُ. واعتَلَّ، أي: مَرِضَ، فهو عليلٌ؛ لأنَّ حالةَ المَريضِ تَتَغَيَّرُ به مِن الصِّحَّةِ والقوَّةِ إلى المَرَضِ والضَّعفِ .
ثانيًا: تَعريفُ العِلَّةِ اصطِلاحًا
العِلَّة في الاصطِلاحِ هيَ: المَعنى الجالِبُ للحُكمِ .
وللأُصوليِّينَ تَعريفاتٌ أُخرى لها كثيرةٌ، اختَلفوا فيها، ومَنشَأُ اختِلافِهم: هو اختِلافُهم في حَقيقةِ العِلَّةِ، هَل هيَ مُعَرِّفةٌ للحُكمِ، أو باعِثةٌ له، أو مُؤَثِّرةٌ فيه، أو موُجِبةٌ له ؟
فمَن يَرى أنَّها المُعَرِّفةُ للحُكمِ عَرَّفها بأنَّها: أنَّها الوصفُ الخارِجُ المُعَرِّفُ للحُكمِ.
أي: أنَّها عَلامةٌ للمُجتَهِدِ يَحصُلُ بها عِلمُه بالحُكمِ، لا الموجِبُ والمُؤَثِّر، ولا الباعِثُ والدَّاعي .
ومَن يَرى أنَّها الباعِثةُ للحُكمِ عَرَّفها بأنَّها: الوصفُ الباعِثُ للحُكمِ .
وقَصَدوا بالباعِثِ: كونَها مُشتَمِلةً على حِكمةٍ صالحةٍ لأن تَكونَ مَقصودةً للشَّارِعِ مِن شَرعِ الحُكمِ، لا بمَعنى أنَّه لأجلِها شَرَعه. ويَصِحُّ أن يُفسَّرَ أيضًا بأنَّه: الباعِثُ للامتِثالِ، أي: باعِثُ المُكَلَّفِ على امتِثالِ الحُكمِ .
ومَن يَرى أنَّها المُؤَثِّرةُ في الحُكمِ عَرَّفها بأنَّها: الوصفُ المُؤَثِّرُ في الحُكمِ بجَعلِ الشَّارِعِ لا لذاتِه .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:
- كَلِمةُ "المَعنى": والتَّعبيرُ عن العِلَّةِ بذلك هو الشَّائِعُ في كلامِ المُتَقدِّمينَ؛ فالسَّلَفُ لم يَستَعمِلوا لفظَ العِلَلِ، بَل كانوا يَستَعمِلونَ لفظَ المَعاني بَدَلًا مِنه .
- جُملةُ "الجالِبُ للحُكمِ": تَعني أنَّ العِلَّةَ هيَ التي ثَبَتَ الحُكمُ لأجلِها في الفرعِ والأصلِ، ولو لم تُذكَرِ العِلَّةُ لكان الحُكمُ ثابتًا بغَيرِ عِلَّةٍ، وهذا لا يَجوزُ . فالحُكمُ مَجلوبُ العِلَّةِ، يُقالُ: عِلَّةُ هذا الحُكمِ كذا، فتُضيفُ العِلَّةَ إلى الحُكمِ .
المُناسَبةُ بَينَ المَعنى اللُّغَويِّ والمَعنى الاصطِلاحيِّ للعِلَّةِ:
سَبَقَ أنَّ العِلَّةَ اسمٌ لِما يَتَغَيَّرُ الشَّيءُ بحُصولِه، وهذا المَعنى مُناسِبٌ للمَعنى الاصطِلاحيِّ عِندَ الأُصوليِّينَ؛ لأنَّ للعِلَّةِ تَأثيرًا في بَيانِ الحُكمِ، كتَأثيرِ العِلَّةِ في ذاتِ المَريضِ. وقيل: سُمِّيَت العِلَّةُ عِلَّةً؛ لأنَّها ناقِلةٌ بحُكمِ الأصلِ إلى الفَرعِ، كالانتِقالِ بالعِلَّةِ مِن الصِّحَّةِ إلى المَرَضِ.
ومِن هنا قال العُكبَريُّ: (سُمِّيَت عِلَّةً لأنَّها غَيَّرَت حالَ المَحَلِّ؛ أخذًا مِن عِلَّةِ المَريضِ؛ لأنَّها اقتَضَت تَغَيُّرَ حالِهـ) .
وقال الغَزاليُّ: (العِلَّةُ في الأصلِ: عِبارةٌ عَمَّا يَتَأثَّرُ المَحَلُّ بوُجودِه؛ ولذا سُمِّيَ المَرَضُ عِلَّةً، وهيَ في اصطِلاحِ الفُقَهاءِ على هذا المَذاقِ) .
واشتِقاقُ العِلَّةِ في اللُّغةِ راجِعٌ إلى مَعنى التَّكرارِ والدَّوامِ؛ وذلك أنَّ العَرَبَ تُسَمِّي السَّقيَ الثَّانيَ عَلَلًا، وتُسَمِّي المَرأةَ التي نُكِحَت على الأُخرى عَلَّةً؛ وذلك أنَّها تُعَلُّ بَعدَ صاحِبَتِها، فكانت العِلَّةُ على هذا الاشتِقاقِ هيَ الشَّيءَ التي يَتَكَرَّرُ ويَدومُ بوُجودِه ما عُلِّقَ به. والعِلَّةُ مَأخوذةٌ مِن العَلَلِ بَعدَ النَّهلِ، وهو مُعاودةُ شُربِ الماءِ مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ؛ لأنَّ المُجتَهِدَ في استِخراجِها يُعاوِدُ النَّظَرَ بَعدَ النَّظَرِ، أو لأنَّ الحُكمَ الشَّرعيَّ يَتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِ وُجودِها؛ ولذلك سُمِّيَ الأمرُ المُثبِتُ للحُكمِ في الشَّرعِ عِلَّةً .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((العين)) للخليل (3/220)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/467).
  2. (2) يُنظر: ((رسالة العكبري)) (ص: 41)، ((العدة)) لأبي يعلى (1/175)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/274).
  3. (3) يُنظر: ((سلم الوصول لشرح نهاية السول)) للمطيعي (1/91).
  4. (4) يُنظر: ((منهاج الوصول)) للبيضاوي (ص: 199)، ((الإبهاج في شرح المنهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2284). ويُنظر أيضًا: ((التحبير)) للمرداوي (7/3177). ذَكَرَ الشِّنقيطيُّ أنَّ تَعريفَ العِلَّةِ بأنَّها مُجَرَّدُ عَلامةٍ لا يَخلو مِن نَظَرٍ، وأنَّه مَبنيٌّ على قَولِ المُتَكَلِّمينَ: إنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ لا تُعَلَّلُ بالأغراضِ، قائِلينَ: إنَّ الفِعلَ مِن أجلِ غايةٍ مُعَيَّنةٍ يَتَكَمَّلُ صاحِبُه بوُجودِ تلك الغايةِ، واللهُ جَلَّ وعَلا مُنَزَّهٌ عن ذلك؛ لأنَّه غَنيٌّ لذاتِه الغِنى المُطلَقَ؛ قال الشِّنقيطيُّ: (والتَّحقيقُ: أنَّ اللَّهَ يَشرَعُ الأحكامَ مِن أجلِ حِكَمٍ باهرةٍ ومَصالِحَ عَظيمةٍ، ولكِنَّ المَصلحةَ في جَميعِ ذلك راجِعةٌ إلى المَخلوقينَ الذينَ هم في غايةِ الفقرِ والحاجةِ إلى ما يَشرَعُه لهم خالقُهم مِن الحِكَمِ والمَصالِحِ، وهو جَلَّ وعَلا غَنيٌّ لذاتِه الغِنى المُطلَقَ، سُبحانَه وتعالى عن كُلِّ ما لا يَليقُ بجَلالِه وكَمالِهـ). ((مذكرة في أصول الفقهـ)) (ص: 328).
  5. (5) يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/254)، ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/1039).
  6. (6) يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/254)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/24).
  7. (7) يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 20) قال: (العِلَّةُ موجِبةٌ؛ أمَّا العَقليَّةُ فبذاتِها، وأمَّا الشَّرعيَّةُ فبجَعلِ الشَّرعِ إيَّاها عِلَّةً موجِبةً، على مَعنى إضافةِ الوُجوبِ إليها، كإضافةِ وُجوبِ القَطعِ إلى السَّرِقةِ، وإن كُنَّا نَعلمُ أنَّه إنَّما يَجِبُ بإيجابِ اللهِ تعالى، ولكِن يَنبَغي أن نَفهَمَ الإيجابَ كما ورَدَ به الشَّرعُ، وقد ورَدَ بأنَّ السَّرِقةَ توجِبُ القَطعَ، والزِّنا يوجِبُ الرَّجمَ).
  8. (8) يُنظر: ((الكافي شرح البزدوي)) للسغناقي (1/168).
  9. (9) يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1376)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/60).
  10. (10) يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/274).
  11. (11) ((رسالة في أصول الفقهـ)) (ص: 79).
  12. (12) ((شفاء الغليل)) (ص: 20).
  13. (13) يُنظر: ((قواطع الأدلة)) لابن السمعاني (2/140)، ((ميزان الأصول)) للسمرقندي (ص: 579)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/170)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/142).