المَسألةُ الثَّامِنةُ: الإكراهُ
الإكراهُ هو: حَملُ الغيرِ على أن يَفعَلَ ما لا يَرضاه، ولا يَختارُ مُباشَرَتَه لَو خُلِّيَ ونَفسَه
.
ولكي يَتَّضِحَ كونُ المُكرَهِ مُكلَّفًا أو لا، يَنبَغي النَّظَرُ في المُكرَهِ نَفسِه، ومَدى وُصولِه إلى دَرَجةِ الاضطِرارِ، فالإكراهُ نَوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: إكراهٌ وصَلَ إلى دَرَجةِ الاضطِرارِ والتَّلجِئةِاتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّ الـمُكرَهَ إذا وصَلَ إلى حَدِّ الاضطِرارِ؛ بحيثُ لا يَبقى لَه قُدرةٌ ولا اختيارٌ
؛ فهو غيرُ مُكَلَّفٍ في هذه الحالِ؛ لأنَّ نِسبةَ ما يَصدُرُ عنه مِنَ الفِعلِ كنِسبةِ حَرَكةِ المُرتَعِشِ إليه، فهذا مَسلوبُ الإرادةِ والاختيارِ؛ فإنَّ المُرتَعِشَ في الحَقيقةِ لا يوصَفُ بكونِه مُكرَهًا في رِعدَتِه، وكذا السَّاقِطُ مِن مَوضِعٍ مُرتَفِعٍ؛ فهو كالآلةِ لا اختيارَ لَه، فهو غيرُ مُكَلَّفٍ؛ إذ تَكليفُه والحالةُ هذه تَكليفٌ بما لا يُطاقُ. وهذا لا نِزاعَ فيه
.
ومِمَّن نَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ نورِ الدِّينِ
، وابنُ حَجَرٍ
، والشِّنقيطيُّ
.
النَّوعُ الثَّاني: إكراهٌ لَم يَصِلْ إلى حَدِّ الاضطِرارِ والتَّلجِئةِوهو أن يُحمَلَ على أمرٍ يَكرَهُه ولا يَرضاه، ولَكِنَّه تَتَعَلَّقُ به القُدرةُ والاختيارُ؛ لأنَّ المُكرَهَ يَختارُ أخَفَّ الأمرينِ المُكرَهَينِ لَه، مِنَ المُكرَهِ عليه والمُكرَهِ به، ويَحصُلُ التَّهديدُ بما لا إتلافَ فيه، كحَبسٍ وضَربٍ لا يُؤَدِّي إلى تَلَفٍ، وغَيرِهما مِمَّا يُمكِنُ الصَّبرُ عليه عادةً، ويَنتَفي مَعَه الرِّضا ولا يَفسُدُ الاختيارُ، وقد وقَعَ الخِلافُ فيه، والرَّاجِحُ جَوازُ تَكليفِ المُكرَهِ غيرِ المَلجَأِ. وهو قَولُ جَماهيرِ الأُصوليِّينَ
.
قال السَّمعانيُّ: (وأمَّا المُكرَهُ ففِعلُه داخِلٌ تَحتَ التَّكليفِ؛ لأنَّه يَقدِرُ على تَركِه بأن يَستَسلمَ بما خُوِّفَ به، وهذا بخِلافِ حَرَكةِ المُرتَعِشِ، لا يوصَفُ بأنَّه مُكرَهٌ عليها؛ لأنَّه لا يَقدِرُ على تَركِها، فالإكراهُ لا يُنافي العِلمَ والقَصدَ، فلا يُنافي دُخولَ فِعلِه تَحتَ اقتِدارِه واختيارِه، فلَم يَسقُطِ التَّكليفُ)
.
وقال ابنُ القَيِّمِ: (وقد دَلَّ القُرآنُ على أنَّ مَن أُكرِهَ على التَّكلُّمِ بكلمةِ الكُفرِ، لا يَكفُرُ، ومَن أُكرِهَ على الإسلامِ لا يَصيرُ به مُسلِمًا، ودَلَّتِ السُّنَّةُ على أنَّ اللَّهَ سُبحانَه تَجاوَزَ عنِ المُكرَهِ فلَم يُؤاخِذْه بما أُكرِهَ عليه، وهذا يُرادُ به كلامُه قَطعًا، وأمَّا أفعالُه ففيها تَفصيلٌ، فما أُبيحَ مِنها بالإكراهِ فهو مُتَجاوَزٌ عنه، كالأكلِ في نَهارِ رَمَضانَ، والعَمَلِ في الصَّلاةِ، ولُبسِ المَخيطِ في الإحرامِ، ونَحوِ ذلك.
وما لا يُباحُ بالإكراهِ فهو مُؤاخَذٌ به، كقَتلِ المَعصومِ وإتلافِ مالِه، وما اختُلِف فيه، كشُربِ الخَمرِ، والزِّنا والسَّرِقةِ، هل يُحَدُّ به أو لا؟ فالاختِلافُ هل يُباحُ ذلك بالإكراهِ أو لا؟ فمَن لَم يُبِحْه حَدَّه به، ومَن أباحَه بالإكراهِ لَم يَحُدَّه، وفيه قَولانِ للعُلَماءِ، وهما رِوايَتانِ عنِ الإمامِ أحمَد.
والفرقُ بينَ الأقوالِ والأفعالِ في الإكراهِ: أنَّ الأفعالَ إذا وقَعَت لَم تَرتَفِعْ مَفسَدَتُها، بَل مَفسَدَتُها مَعَها، بخِلافِ الأقوالِ؛ فإنَّها يُمكِنُ إلغاؤُها وجَعلُها بمَنزِلةِ أقوالِ النَّائِم والمَجنونِ، فمَفسَدةُ الفِعلِ الذي لا يُباحُ بالإكراهِ، ثابتةٌ بخِلافِ مَفسَدةِ القَولِ؛ فإنَّها إنَّما تَثبُتُ إذا كان قائِلُه عالِمًا به مُختارًا لَهـ)
.
وقَولُ الجُمهورِ: إنَّ المُكرَهَ مُكلَّفٌ، وإنَّ الإكراهَ لا يَمنَعُ التَّكليفَ، لا يَعني مُؤاخَذَتَه على كُلِّ ما أُكرِهَ عليه. فالحُكمُ الفِقهيُّ لِما يَفعَلُه المُكرَهُ فيه تَفصيلٌ، وبيانُه فيما يَلي:
1- الإكراهُ بحَقٍّ على بيعِ مالِه لسَدادِ الغُرَماءِ ونَحوِ ذلك، فهذا يَنفَذُ ويَصِحُّ.
2- الإكراهُ بغيرِ حَقٍّ، وهذا يَختَلفُ حُكمُه باختِلافِ المُكرَهِ عليه، فهو إمَّا أن يَكونَ قَولًا أو فِعلًا.
فأمَّا الأقوالُ فهي أنواعٌ؛ مِنها:1- العُقودُ الماليَّةُ، كالبيعِ والإجارةِ ونَحوِ ذلك، وهذه لا تَصِحُّ ولا تَنعَقِدُ عِندَ الجُمهورِ
.
2- العِتقُ والنِّكاحُ والطَّلاقُ، وهي عُقودٌ لا تَقبَلُ الفَسخَ، وهذه لا تَقَعُ مَعَ الإكراهِ عِندَ الجُمهورِ
.
3- الأقوالُ المُحَرَّمةُ، كالنُّطقِ بكَلِمةِ الكُفرِ، وهذه يُعَدُّ الإكراهُ عُذرًا مُسقِطًا لعُقوبَتِها إن نَطَق بها وقَلبُه مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ، كما قال تعالى:
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106] . والنُّطقُ بها رُخصةٌ، فإن صَبَرَ على الأذى وامتَنَعَ أُثيبَ على ذلك، وأمَّا القَذفُ ونَحوُه فالإكراهُ يُسقِطُ عُقوبَتَه والإثمَ المُتَرَتِّبَ عليه
.
وأمَّا الأفعالُ فهي أنواعٌ؛ مِنها:1 ـ أفعالُ الكُفرِ، كتَمزيقِ المُصحَفِ والذَّبحِ للصَّنَمِ، ونَحوِ ذلك، وهذه كالنُّطقِ بالكُفرِ يُرَخَّصُ للمُكرَهِ في فِعلِها إن فعَلَها وقَلبُه مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ على الصَّحيحِ.
2 ـ قَتلُ المَعصومِ أو جَرحُه أو قَطعُ طَرَفٍ مِن أطرافِه، والإكراهُ لا يُبيحُ ذلك باتِّفاقٍ؛ فالفاعِلُ يَأثَمُ باتِّفاقٍ.
3 ـ الزِّنا: والإكراهُ عليه لا يُبيحُه باتِّفاقٍ، واختَلَفوا في إقامةِ الحَدِّ على المُكرَهِ، والصَّوابُ: أنَّه لا حَدَّ عليه؛ لأنَّ الحُدودَ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ، والإكراهُ شُبهةٌ قَويَّةٌ، وأمَّا المُكرِهُ فلا حَدَّ عليه باتِّفاقٍ
.
شُروطُ الإكراهِ:قال ابنُ حَجَرٍ: (شُروطُ الإكراهِ أربَعةٌ:
1- أن يَكونَ فاعِلُه قادِرًا على إيقاعِ ما يُهَدِّدُ به، والمَأمورُ عاجِزًا عنِ الدَّفعِ ولَو بالفِرارِ.
2- أن يَغلبَ على ظَنِّه أنَّه إذا امتَنَعَ أوقَعَ به ذلك.
3- أن يَكونَ ما هَدَّدَ به فَوريًّا، فلَو قال: إن لَم تَفعَلْ كذا ضَربَتُك غَدًا، لا يُعَدُّ مُكرَهًا، ويُستَثنى ما إذا ذَكرَ زَمَنًا قَريبًا جِدًّا، أو جَرَتِ العادةُ بأنَّه لا يُخلِفُ.
4- أن لا يَظهرَ مِنَ المَأمورِ ما يَدُلُّ على اختيارِهـ)
.