المَطلَبُ العاشِرُ: الإفتاءُ في النَّوازِلِ الفِقهيَّةِ المُعاصِرةِ
مِن صُوَرِ الإعجازِ التَّشريعيِّ أنَّه لا تَنزِلُ نازِلةٌ ولا تَجِدُّ حادِثةٌ إلَّا ولَها حُكمٌ يُلتَمَسُ في نُصوصِ هذه الشَّريعةِ مُباشَرةً، أو تُلحَقُ الحادِثةُ بنَظيرَتِها إلحاقًا أو تَندَرِجُ تَحتَ قاعِدةٍ فِقهيَّةٍ كُلِّيَّةٍ، أو يُدرَكُ حُكمُها بالنَّظَرِ إلى قانونِ المَصالِحِ وقَواعِدِ الاستِصلاحِ، وغَيرِ ذلك مِن مَوارِدِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ
.
ضَوابِطُ للإفتاءِ في النَّوازِلِ الفِقهيَّةِ المُعاصِرةِ
:مِنَ الضَّوابِطِ المُهمَّةِ التي يَتَحَرَّاها المُفتي في النَّوازِلِ المُعاصِرةِ:
1- التَّأكُّدُ مِن وُقوعِها:وقد ورَدَ عنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ كَراهيةُ السُّؤالِ عَمَّا لم يَقَعْ، وامتِناعُهم عنِ الإفتاءِ فيها، وبَعضُهم ذَهَبَ إلى التَّشديدِ في ذلك والنَّهيِ عنه
.
وقد جاءَ رَجُلٌ يَومًا إلى ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، فسَألَه عن شَيءٍ، فقال له ابنُ عُمَرَ: لا تَسألْ عَمَّا لم يَكُنْ؛ فإنِّي سَمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رِضوانُ اللَّهِ عليه- يَلعنُ مَن سَألَ عَمَّا لم يَكُنْ
.
وعنِ الزُّهريِّ، قال: (بَلَغَنا أنَّ زَيدَ بنَ ثابِتٍ الأنصاريَّ -رِضوانُ اللَّهِ عليه- كان يَقولُ إذا سُئِلَ عنِ الأمرِ: أكان هذا؟ فإن قالوا: نَعَم قد كان، حَدَّثَ فيه بالذي يَعلَمُ والذي يَرى، وإن قالوا: لم يَكُن، قال: فذَروه حتَّى يَكونَ)
.
2- فَهمُ النَّازِلةِ فَهمًا دقيقًا:فلا بُدَّ للمُفتي مِن تَفَهُّمِ المَسألةِ مِن جَميعِ جَوانِبِها، والتَّعَرُّفِ على جَميعِ أبعادِها وظُروفِها وأصولِها وفُروعِها ومُصطَلَحاتِها، وغَيرِ ذلك مِمَّا له تَأثيرٌ في الحُكمِ.
عنِ الشَّعبيِّ، قال: لمَّا بَعَثَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه شُرَيحًا على قَضاءِ الكوفةِ قال له: (انظُرْ ما تَبَيَّنَ لك في كِتابِ اللهِ فلا تَسألْ عنه أحَدًا، وما لم يَتَبَيَّنْ لك في كِتابِ اللهِ فابتَغِ فيه سُنَّةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما لم يَتَبَيَّنْ لك في السُّنَّةِ فاجتَهِدْ رَأيَك)
.
قال ابنُ القَيِّمِ: (ولا يَتَمَكَّنُ المُفتي ولا الحاكِمُ مِنَ الفتوى والحُكمِ بالحَقِّ إلَّا بنَوعَينِ مِنَ الفهمِ:
أحَدُهما: فَهمُ الواقِعِ، والفِقهُ فيه، واستِنباطُ عِلمِ حَقيقةِ ما وقَعَ بالقَرائِنِ والأماراتِ والعَلاماتِ حتَّى يُحيطَ به عِلمًا.
والنَّوعُ الثَّاني: فَهمُ الواجِبِ في الواقِعِ، وهو فهمُ حُكمِ اللهِ الذي حَكَمَ به في كِتابِه أو على لسانِ رَسولِه في هذا الواقِعِ.
ثُمَّ يُطَبِّقُ أحَدَهما على الآخَرِ؛ فمَن بَذَلَ جُهدَه واستَفرَغَ وُسعَه في ذلك لم يَعدَمْ أجرَينِ أو أجرًا، فالعالِمُ مَن يَتَوصَّلُ بمَعرِفةِ الواقِعِ والتَّفقُّهِ فيه إلى مَعرِفةِ حُكمِ اللهِ ورَسولِه، كَما تَوصَّلَ شاهِدُ يوسُفَ بشَقِّ القَميصِ مِن دُبُرٍ إلى مَعرِفةِ بَراءَتِه وصِدقِه. وكَما توصَّل سُلَيمانُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه: (ائتوني بالسِّكِّينِ حتَّى أشُقَّ الولَدَ بَينَكُما)
إلى مَعرِفةِ عَينِ الأمِّ)
.
3- التَّثَبُّتُ والتَّحَرِّي واستِشارةُ أهلِ الاختِصاصِ:يَحتاجُ الفقيهُ إلى أن يَستَفصِلَ مِنَ السَّائِلِ عِندَ وُرودِ الاحتِمالِ إذا دَعا المَقامُ إلى ذلك، وكذلك زيادةُ التَّثَبُّتِ والتَّحَرِّي للمَسألةِ وعَدَمُ الاستِعجالِ في الحُكمِ عليها، والتَّأنِّي في نَظَرِه لها؛ فقد يَطرَأُ ما يُغَيِّرُ واقِعَ المَسألةِ أو يَصِلُ إليه عِلمٌ يُنافي حَقيقَتَها وما يَلزَمُ منها، فإذا أفتى أو حَكَمَ مِن خِلالِ نَظَرٍ قاصِرٍ أو قِلَّةِ بَحثٍ وتثبُّتٍ وتَرَوٍّ، فقد يُخطِئُ الصَّوابَ، ويَقَعُ في مَحذورٍ يَزِلُّ فيه خَلقٌ كَثيرٌ.
ومِمَّا يُذكَرُ عن مالِكٍ أنَّه قال: (إنِّي لأُفكِّرُ في مَسألةٍ مُنذُ بِضعَ عَشرةَ سَنةً، فما اتَّفقَ لي فيها رَأيٌ إلى الآنَ!)
.
فحَقيقٌ بمَن أُقيمَ في هذا المَنصِبِ أن يُعِدَّ له عُدَّتَه، وأن يَتَأهَّبَ له أُهبَتَه، وأن يَعلَمَ قَدرَ المَقامِ الذي أُقيمَ فيه
.
وأن يَستَفيدَ مِن أهلِ كُلِّ تَخَصُّصٍ، خاصَّةً في النَّوازِلِ المُعاصِرةِ، كالمُتَعَلِّقةِ بالطِّبِّ والاقتِصادِ والفلَكِ وغَيرِها، كما قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (ثُمَّ يَذكُرُ المَسألةَ لمَن بحَضرَتِه مِمَّن يَصلُحُ لذلك مِن أهلِ العِلمِ، ويُشاوِرُهم في الجَوابِ، ويَسألُ كُلَّ واحِدٍ مِنهم عَمَّا عِندَه؛ فإنَّ في ذلك بَرَكةً، واقتِداءً بالسَّلَفِ الصَّالِح، وقد قال اللهُ تَبارَكَ وتعالى:
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] ، وشاورَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَواضِعَ وأشياءَ، وأمرَ بالمُشاورةِ، وكانتِ الصَّحابةُ تُشاوِرُ في الفتاوى والأحكامِ)
.
4- الالتِجاءُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ وسُؤالُه الإعانةَ والتَّوفيقَ:وهو مِن أهَمِّ الآدابِ التي يَنبَغي أن يُراعيَها المُفتي ليُوفَّقَ للصَّوابِ، ويَفتَحَ اللهُ عليه بالجَوابِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (يَنبَغي للمُفتي الموفَّقِ إذا نَزَلَت به المَسألةُ أن يَنبَعِثَ مِن قَلبِه الافتِقارُ الحَقيقيُّ الحاليُّ لا العِلميُّ المُجَرَّدُ، إلى مُلهِمِ الصَّوابِ، ومُعَلِّمِ الخَيرِ، وهادي القُلوبِ، أن يُلهِمَه الصَّوابَ، ويَفتَحَ له طَريقَ السَّدادِ، ويَدُلَّه على حُكمِه الذي شَرَعَه لعِبادِه في هذه المَسألةِ. فمَتى قَرَعَ هذا البابَ فقد قَرَعَ بابَ التَّوفيقِ، وما أجدَرَ مَن أمَّلَ فَضلَ رَبِّه ألَّا يَحرِمَه إيَّاه. فإذا وجَدَ مِن قَلبِه هذه الهمَّةَ فهيَ طَلائِعُ بُشرى التَّوفيقِ، فعليه أن يوجِّهَ وَجهَه ويُحَدِّقَ نَظَرَه إلى مَنبَعِ الهدى، ومَعدِنِ الصَّوابِ، ومَطلَعِ الرُّشدِ؛ وهو النُّصوصُ مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ وآثارِ الصَّحابةِ، فيَستَفرِغُ وُسعَه في تَعَرُّفِ حُكمِ تلك النَّازِلةِ منها، فإن ظَفِر بذلك أخبَرَ به، وإنِ اشتَبَهَ عليه بادَرَ إلى التَّوبةِ والاستِغفارِ والإكثارِ مِن ذِكرِ اللهِ)
.
5- فِقهُ الواقِعِ المُحيطِ بالمَسألةِ:فيُراعي النَّاظِرُ في النَّوازِلِ عِندَ اجتِهادِه تغَيُّرَ الواقِعِ المُحيطِ بالنَّازِلةِ، سَواءٌ كان تغيُّرًا زَمانيًّا أو مَكانيًّا في الأحوالِ والظُّروفِ، وعلى النَّاظِرِ تبعًا لذلك مُراعاةُ هذا التَّغَيُّرِ في فتواه وحُكمِه.
وذلك أنَّ كثيرًا مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ الاجتِهاديَّةِ تَتَأثَّرُ بتَغَيُّرِ الأوضاعِ والأحوالِ الزَّمَنيَّةِ والبيئيَّةِ، فالأحكامُ تَنظيمٌ أوجَبَه الشَّرعُ، يَهدِفُ إلى إقامةِ العَدلِ وجَلبِ المَصالِحِ ودَرءِ المَفاسِدِ، فهيَ ذاتُ ارتِباطٍ وثيقٍ بالأوضاعِ والوسائِلِ الزَّمَنيَّةِ وبالأخلاقِ العامَّةِ، فكَم مِن حُكمٍ كان تدبيرًا أو علاجًا ناجحًا لبيئةٍ في زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فأصبَحَ بَعدَ جيلٍ أو أجيالٍ لا يوصِلُ إلى المَقصودِ منه، أو أصبَحَ يُفضي إلى عَكسِه بتَغَيُّرِ الأوضاعِ والوسائِلِ والأخلاقِ.