المَسألةُ الرَّابِعةُ: التَّخصيصُ بالتَّقريرِ
إذا ورَدَ عامٌّ، ثُمَّ وُجِدَ مَن قال قولًا أو فَعَلَ فعلًا يُخالِفُ مُقتَضى هذا العامِّ بحَضرةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولَم يُنكِرْ عليه، فهَل يَكونُ عَدَمُ إنكارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك الفاعِلِ يُخَصِّصُ ذلك العامَّ أو لا
؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه يَجوزُ التَّخصيصُ بالتَّقريرِ مُطلَقًا. فمَن فعَلَ ما يُخالِفُ مُقتَضى العُمومِ بحَضرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلَم يُنكِرْه عليه، فعَدَمُ الإنكارِ مِنَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاطِعٌ في تَخصيصِ العامِّ.
وهو مَنقولٌ عن أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ
، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ
، والشَّافِعيَّةِ
، والحَنابِلةِ
، وبه قال جُمهورُ الأُصوليِّينَ
.
وعلى هذا يَكونُ تَخصيصًا إن خالَف الفاعِل في فردٍ مِن أفرادِ العامِّ، ويَكونُ نَسخًا لا تَخصيصًا إن خالَف جَميعَ ما دَلَّ عليه العامُّ
.
الأدِلَّةُ:1- أنَّ مِن خَصائِصِ الأنبياءِ تَغييرَ المُنكَرِ مُطلَقًا، بخِلافِ غَيرِهم، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما رَأى مُنكَرًا إلَّا غَيَّرَه، فإذا سَمِعَ قولًا أو فُعِلَ بحَضرَتِه فِعلٌ يُخالِفُ موجِبَ العُمومِ، أو بَلَغَه ذلك، ولَم يُنكِرْه، دَلَّ ذلك على جَوازِه وإباحَتِه؛ إذ لَو كان حَرامًا لأنكَره؛ لأنَّه لا يُقِرُّ على المُنكَرِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى وصَفه بأنَّه يَأمُرُ بالمَعروفِ ويَنهى عنِ المُنكَرِ، فقال تعالى:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157] ، ووصَفه بأنَّه بَشيرٌ ونَذيرٌ، فقال تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة: 119] ، فعُلِمَ بذلك أنَّ هذا الفِعلَ ليس بمَحظورٍ، وأنَّه مُخَصِّصٌ لعُمومِ الحَظرِ
.
2- أنَّ تَخصيصَ العُمومِ بالتَّقريرِ فيه عَمَلٌ بالدَّليلَينِ؛ لأنَّ سُكوتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَليلُ جَوازِ الفِعلِ؛ إذ عُلِمَ مِن عادَتِه أنَّه لَو لَم يَكُنْ جائزًا لَما سَكَتَ عن إنكارِه، وإذا ثَبَتَ أنَّه دَليلُ الجَوازِ -وهو مُخالِفٌ لموجِبِ العامِّ- وجَبَ التَّخصيصُ به؛ جَمعًا بَينَ الدَّليلَينِ كغَيرِه
.
3- أنَّ إقرارَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجَّةٌ، وهو حُجَّةٌ خاصَّةٌ، فكانت مُقدَّمةً على الحُجَّةِ العامَّةِ؛ اعتبارًا بالأدِلَّةِ الخاصَّةِ كُلِّها
.
وقيلَ: يَجوزُ التَّخصيصُ بالتَّقريرِ إذا كان مُقارِنًا لذِكرِ العامِّ، فإن تَأخَّرَ التَّقريرُ عن وقتِ العَمَلِ بالعامِّ كان نسخًا لا تَخصيصًا. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ
، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كالهِنديِّ
، والزَّركَشيِّ
، والبِرْماويِّ
.
وقيلَ: لا يَجوزُ التَّخصيصُ بالتَّقريرِ مُطلَقًا. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
، وعَزاه الآمِديُّ إلى طائِفةٍ شاذَّةٍ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:1- عَدَمُ انتِقاضِ الوُضوءِ بالنَّومِ قاعِدًا:فقد ورَدَت أدِلَّةٌ عامَّةٌ في نَقضِ الوُضوءِ بالنَّومِ، منها:
قَولُ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] .
قال الشَّافِعيُّ: (سَمِعتُ مَن أرضى عِلمَه بالقُرآنِ يَزعُمُ أنَّها نَزَلَت في القائِمينَ مِنَ النَّومِ)
.
ومِنها: حَديثُ صَفوانَ بنِ عَسَّالٍ، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُنا إذا كُنَّا سَفْرًا أن لا نَنزِعَ خِفافَنا ثَلاثةَ أيَّامِ ولَياليَهنَّ، إلَّا مِن جَنابةٍ، ولَكِنْ مِن غائِطٍ وبَولٍ ونَومٍ))
.
قال ابنُ حَزمٍ: (فعَمَّ عليه السَّلامُ كُلَّ نَومٍ، ولَم يَخُصَّ قَليلَه مِن كَثيرِه، ولا حالًا من حالٍ، وسَوَّى بَينَه وبَينَ الغائِطِ والبَولِ)
.
وقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في نَقضِ الوُضوءِ بالنَّومِ، والرَّاجِحُ: أنَّه إذا نامَ جالِسًا مُمكِّنًا مَقعَدَتَه مِنَ الأرضِ لَم يَنتَقِضْ وُضوؤه، وإلَّا انتَقَضَ، سَواءٌ قَلَّ أو كَثُرَ، وسَواءٌ أكان في الصَّلاةِ أو خارِجَها. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ
، ومَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ
.
وهذا بناءً على أنَّ العامَّ هنا مَخصوصٌ بإقرارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرْكَ الوُضوءِ لمَن نامَ قاعِدًا
.
فقد ثَبَتَ أنَّ بَعضَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم كانوا يَنامونَ في المَسجِدِ حتَّى تَخفُقَ رؤوسُهم، ثُمَّ يُصَلُّونَ ولا يتوضَّؤون؛ فعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((أُقيمَتِ الصَّلاةُ والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُناجي رجلًا، فلَم يَزَلْ يُناجيه حتَّى نامَ أصحابُه، ثُمَّ جاءَ فصَلَّى بهم))
.
قال ابنُ رُشدٍ: (وأمَّا الشَّافِعيُّ فإنَّما حَمَلَها على أنَّ المُستَثنى مِن هَيئاتِ النَّائِمِ الجُلوسُ فقَط؛ لأنَّه قد صَحَّ ذلك عنِ الصَّحابةِ، أعني أنَّهم كانوا يَنامونَ جُلوسًا ولا يتوضَّؤون، ويُصَلُّونَ)
.
وقيلَ: إنَّ النَّومَ الطَّويلَ الثَّقيلَ يَنقُضُ الوُضوءَ، على أيِّ حالٍ كان النَّائِمُ؛ مُضطَجِعًا أو ساجِدًا أو جالِسًا أو قائِمًا، والخَفيفُ اليَسيرُ لا يَنقُضُه. وهذا قَولُ مالِكٍ
، ورِوايةٌ عن أحمَدَ
، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ
، والمَشهورُ مِن مَذهَبِ الحَنابِلةِ
.
وقيلَ: لا يَنقُضُ النَّومُ الوُضوءَ إذا نامَ قائِمًا أو راكِعًا أو ساجِدًا أو قاعِدًا، ويَنقُضُه إذا نامَ مُضطَجِعًا، أو مُتَّكِئًا، أو مُستَلقيًا على قَفاه. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ
.
2- قَضاءُ رَكعَتي الفَجرِ بَعدَ الفريضةِ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ:فقد ورَدَ النَّهيُ العامُّ عنِ الصَّلاةِ بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ؛ فعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنِ الصَّلاةِ بَعدَ العَصرِ حتَّى تَغرُبَ الشَّمسُ، وعنِ الصَّلاةِ بَعدَ الصُّبحِ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ
.
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((لا صَلاةَ بَعدَ الصُّبحِ حتَّى تَرتَفِعَ الشَّمسُ...))
.
وقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في وقتِ قَضاءِ رَكعَتيِ الفجرِ، فقيلَ: يَجوزُ قَضاءُ الرَّكعَتَينِ بَعدَ الفريضةِ قَبلَ أن تَطلُعَ الشَّمسُ، وهو قَولُ الشَّافِعيِّ
، ورِوايةٌ عن أحمَدَ
، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ
، وبَعضِ الحَنابِلةِ
.
وهذا بناءً على أنَّ العُمومَ مَخصوصٌ بإقرارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَن قَضى رَكعَتي الفجرِ بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ
. فعن قَيسِ بنِ عَمرٍو، قال: رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلًا يُصَلِّي بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ رَكعَتَينِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أصَلاةَ الصُّبحِ مَرَّتَينِ؟ فقال الرَّجُلُ: إنِّي لَم أكُنْ صَلَّيتُ الرَّكعَتَينِ اللَّتَينِ قَبلَهما، فصَلَّيتُهما الآنَ. قال: فسَكَتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))
.
وذلك على اعتِبارِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا رَأى مَن يُصَلِّي رَكعَتي الفجرِ بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ أقَرَّه على ذلك، فيُخصُّ به نَهيُه عنِ الصَّلاةِ بَعدَ الصُّبحِ؛ لأنَّه لا يَجوزُ أن يَرى مُنكَرًا مِن أحَدٍ ويُقِرَّه عليه، فلمَّا أقَرَّه دَلَّ على جَوازِه
.
وقيلَ: يَقضيهما بَعدَ طُلوعِ الشَّمسِ أخذًا بالعُمومِ، وهو قَولُ مالِكٍ
، ورِوايةٌ عن أحمَدَ
، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
، والمالِكيَّةِ
، وأكثَرِ الحَنابِلةِ
.