موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابِعُ: دَلالةُ العامِّ هَل هيَ ظَنِّيَّةٌ أو قَطعيَّةٌ؟


للعامِّ دَلالَتانِ:
1- دَلالةُ العامِّ على أصلِ المَعنى، وهيَ قَطعيَّةٌ بلا خِلافٍ، ومِمَّن حَكى ذلك: الزَّركَشيُّ ، وأبو زُرعةَ العِراقيُّ ، والجراعيُّ ، وابنُ النَّجَّارِ . يَعني: أنَّ دَلالةَ العامِّ على أصلِ مَعناه، وهو فردٌ واحِدٌ قَطعيَّةٌ، والمُرادُ بالفردِ الواحِدِ ما ليس جَمعًا ولا تَثنيةً، والِاثنانِ في التَّثنيةِ، أوِ الثَّلاثةُ في الجَمعِ
2- دَلالةُ العامِّ على استِغراقِ الأفرادِ، أي: على كُلِّ فردٍ بخُصوصِه، هَل هيَ ظَنِّيَّةٌ أو قَطعيَّةٌ؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في صِفةِ دَلالةِ العامِّ على استِغراقِه لجَميعِ أفرادِه: هَل هيَ قَطعيَّةٌ أم ظَنِّيَّةٌ؟
والرَّاجِحُ: أنَّ دَلالةَ العامِّ على جَميعِ أفرادِه ظَنِّيَّةٌ، ولا تَدُلُّ على القَطعِ إلَّا بالقَرائِنِ، فإنِ اقتَرَنَ به ما يَدُلُّ على التَّعميمِ فدَلالَتُه على الأفرادِ قَطعيَّةٌ، وإذا خُصَّ العامُّ كان ظَنِّيَّ الدَّلالةِ أيضًا على ما بَقيَ مِن أفرادِه بَعدَ التَّخصيصِ، فهو ظَنِّيُّ الدَّلالةِ قَبلَ التَّخصيصِ وبَعدَه. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ ، وبه قال مَشايِخُ سَمَرقَندَ مِنَ الحَنَفيَّةِ ، وجُمهورُ الأُصوليِّينَ مِنَ المالِكيَّةِ ، والشَّافِعيَّةِ ، والحَنابِلةِ ، وهو قَولُ جُمهورِ الفُقَهاءِ .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ كُلَّ عامٍّ يَحتَمِلُ التَّخصيصَ، مَعَ شُيوعِ التَّخصيصِ فيه، حتَّى كَرَّرَ العُلَماءُ عِبارَتَهم: "ما مِن عامٍّ إلَّا وقد خُصَّ"، فلا يَخلو منه إلَّا القَليلُ بقَرينةٍ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن: 26]، وهذا يورِثُ الشُّبهةَ والِاحتِمالَ في دَلالَتِه، فتَكونُ ظَنِّيَّةً .
2- أنَّ صيَغَ العُمومِ تَرِدُ تارةً باقيةً على عُمومِها، وتارةً يُرادُ بها بَعضُ الأفرادِ، وتارةً يَقَعُ فيها التَّخصيصُ، ومَعَ الاحتِمالِ لا يَكونُ قَطعٌ .
3- أنَّه يَجوزُ تَأكيدُ العامِّ بكُلٍّ وأجمَعينَ؛ لدَفعِ احتِمالِ التَّخصيصِ، فالِاحتِمالُ وارِدٌ في العامِّ، فكان ظنِّيًّا، ولَولا ذلك لَما جازَ تَأكيدُ الصِّيَغِ العامَّةِ؛ إذ لا فائِدةَ فيه، وقد قال اللهُ تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30] .
وقيلَ: إنَّ دَلالةَ العامِّ على أفرادِه قَطعيَّةٌ إذا لم يُخَصَّ، فإذا خُصَّ منه البَعضُ صارَت دَلالَتُه على ما بَقيَ بَعدَ التَّخصيصِ ظَنِّيَّةً. وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ ، وبَعضِ الحَنابِلةِ .
وقيلَ بالتَّوقُّفِ حتَّى يَتَبَيَّنَ المُرادُ مِنه .
أثَرُ الاختِلافِ في المَسألةِ:
يَتَرَتَّبُ على الاختِلافِ بَينَ الأُصوليِّينَ في دَلالةِ العامِّ: اختِلافُهم في بَعضِ المَسائِلِ الأُصوليَّةِ، ومِنها:
1- وُجوبُ اعتِقادِ عُمومِ العامِّ قَبلَ البَحثِ عنِ المُخَصِّصِ:
فعلى القَولِ الرَّاجِحِ يَجِبُ التَّوقُّفُ في العَمَلِ بالعامِّ قَبلَ البَحثِ عن مُخَصِّصٍ حتَّى يُنظَرَ في الأُصولِ التي يَتَعَرَّفُ فيها الأدِلَّةَ، فإن دَلَّ الدَّليلُ على تَخصيصِه خُصَّ به، وإن لَم يَجِدْ دليلًا يَدُلُّ على التَّخصيصِ اعتَقدَ عُمومَه، وعَمِل بموجِبِه .
وعِندَ الحَنَفيَّةِ: يَجِبُ التَّمَسُّكُ بالعُمومِ، واعتِقادُه في الحالِ قَبلَ البَحثِ عن مُخَصِّصٍ .
2- تَخصيصُ العُمومِ بالدَّليلِ الظَّنِّيِّ:
فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: يَجوزُ تَخصيصُ اللَّفظِ العامِّ الظَّنِّيِّ بالدَّليلِ الظَّنِّيِّ، كخَبَرِ الآحادِ، والقياسِ، مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء: 24] ؛ فإنَّه مُخَصَّصٌ بما رَواه أبو هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تُنكَحُ المَرأةُ على عَمَّتِها، ولا على خالَتِها)) .
وعلى قَولِ الحَنَفيَّةِ: لا يَجوزُ تَخصيصُ العامِّ ابتِداءً بدَليلٍ ظَنِّيٍّ، كَخَبَرِ الآحادِ والقياسِ .
3- تَعارُضُ العامِّ والخاصِّ:
فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: لا يَتَحَقَّقُ التَّعارُضُ بَينَ العامِّ والخاصِّ، ويُعمَلُ بالخاصِّ فيما دَلَّ عليه، ويُعمَلُ بالعامِّ فيما وراءَ ذلك؛ لأنَّ الخاصَّ قَطعيُّ الدَّلالةِ، والعامَّ ظَنِّيُّ الدَّلالةِ، ولا تَعارُضَ بَينَهما؛ لأنَّ شَرطَ تَحَقُّقِ التَّعارُضِ بَينَ الدَّليلَينِ أن يَكونا في قوَّةٍ واحِدةٍ، كالقَطعيَّينِ، والظَّنِّيَّينِ.
وعلى قَولِ الحَنَفيَّةِ: يَتَحَقَّقُ التَّعارُضُ بَينَ العامِّ الذي لم يُخَصَّصْ، وبَينَ الخاصِّ؛ لأنَّهما قَطعيَّانِ، ويَكونُ التَّعارُضُ في القَدرِ الذي دَلَّ عليه الخاصُّ فقَط لتَساويهما في القَطعيَّةِ، ويَجِبُ اللُّجوءُ إلى دَفعِ التَّعارُضِ إمَّا بالتَّوقُّفِ، وإمَّا بالتَّخصيصِ، وإمَّا بالنَّسخِ مِنَ المُتَأخِّرِ للمُتَقدِّمِ.
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234] ، فهيَ عامَّةٌ في كُلٍّ متوفًّى عنها زَوجُها، سَواءٌ كانت حامِلًا أم لا، مَعَ قَولِ اللهِ تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ، فعِدَّةُ الحامِلِ بوَضعِ الحَملِ، ولا تَعارُضَ بَينَهما عِندَ الجُمهورِ، ويُعمَلُ بكُلٍّ مِنهما، وعِندَ الحَنَفيَّةِ يَتَحَقَّقُ التَّعارُضُ، والآيةُ الثَّانيةُ مُتَراخيةٌ عنِ الأولى، فتَكونُ ناسِخةً لها في الحامِلِ المُتَوفَّى عنها زَوجُها .

انظر أيضا:

  1. (1) قال: (للعامِّ دَلالَتانِ؛ إحداهما: على أصلِ المَعنى، وهيَ قَطعيَّةٌ بلا خِلافٍ). ((تشنيف المسامع)) (2/653).
  2. (2) قال: (دَلالةُ العامِّ على أصلِ المَعنى قَطعيَّةٌ بلا خِلافٍ). ((الغيث الهامع)) (ص: 273).
  3. (3) قال: (للعامِّ دَلالَتانِ؛ إحداهما: على أصلِ المَعنى، وهيَ قَطعيَّةٌ بلا خِلافٍ). ((شرح مختصر أصول الفقهـ)) (2/424).
  4. (4) قال: (دَلالةُ العُمومِ "على أصلِ المَعنى" دَلالةٌ "قَطعيَّةٌ"، وهذا بلا نِزاعٍ). ((شرح الكوكب المنير)) (3/114).
  5. (5) يُنظر: ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (1/212)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/200).
  6. (6) يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1217)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/35).
  7. (7) يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (1/280)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/304).
  8. (8) يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (5/2101)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (1/212)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/201).
  9. (9) يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/653)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 273)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/254).
  10. (10) يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 106)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2338)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/114).
  11. (11) يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 187)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/69).
  12. (12) يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 53-54).
  13. (13) يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/653)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1289)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2339).
  14. (14) يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/653)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1289).
  15. (15) يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 106).
  16. (16) يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 96)، ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/267).
  17. (17) يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 106)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2339).
  18. (18) يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (1/278)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/69).
  19. (19) يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 119)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/163)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/248)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/38).
  20. (20) يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/304)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/254).
  21. (21) أخرجه البخاري (5110)، ومسلم (1408) واللفظ له.
  22. (22) يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 96)، ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/304)، ((سلاسل الذهب)) (ص: 246)، ((البحر المحيط)) (4/38) كلاهما للزركشي.
  23. (23) يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/261)، ((التوضيح لمتن التنقيح)) لصدر الشريعة (1/71)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/56).