المَطلَبُ العاشِرُ: الأمرُ بَعدَ الاستِئذانِ
الاستِئذانُ: طَلَبُ الإذنِ فيما لا يَجوزُ إلَّا به
، والإذنُ في الشَّيءِ: إعلامٌ بإجازَتِه والرُّخصةِ فيه
.
قال الكرمانيُّ: (الاستِئذانُ: طَلَبُ الإذنِ، والإذنُ: إعلامٌ بجَوازِ فِعلٍ)
.
وقال ابنُ عاشورٍ: (الاستِئذانُ: طَلَبُ الإذنِ، أي: في إباحةِ عَمَلٍ، وتَركِ ضِدِّه؛ لأنَّ شَأنَ الإباحةِ أن تَقتَضيَ التَّخييرَ بَينَ أحَدِ أمرَينِ مُتَضادَّينِ ... ولمَّا كان الاستِئذانُ يَستَلزِمُ شَيئَينِ مُتَضادَّينِ كما قُلنا، جازَ أن يُقالَ: استَأذَنتُ في كَذا، واستَأذَنتُ في تَركِ كَذا. وإنَّما يُذكَرُ غالِبًا مَعَ فِعلِ الاستِئذانِ الأمرُ الذي يَرغَبُ المُستَأذِنُ الإذنَ فيه دونَ ضِدِّه، وإن كان ذِكرُ كِلَيهما صحيحًا)
.
ومِثالُ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ: أن يُستَأذَنَ على فِعلِ شَيءٍ، فيَقولُ: افعَلْه
.
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في دَلالةِ الأمرِ الوارِدِ بَعدَ استِئذانٍ، ونَصَّ كَثيرٌ مِنهم على أنَّ دَلالةَ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ كَدَلالةِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ، ولا فرقَ بَينَهما، ومِن ذلك:
قَولُ ابنِ السُّبكيِّ: (صَرَّحَ الإمامُ
هنا: بأنَّ حُكمَ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ حُكمُه بَعدَ التَّحريمِ، حتَّى يَقَعَ فيه الخِلافُ في إفادةِ الوُجوبِ. ومِثالٌ ذلك: أن يَستَأذِنَ على فِعلِ شَيءٍ، فيَقولَ: افعَلْه. وهذا حَسَنٌ مُتَّجِهٌ)
.
وقال الإسنَويُّ: (الأمرُ بَعدَ الاستِئذانِ كالأمرِ بَعدَ التَّحريمِ)
.
وقال ابنُ قاضي الجَبَلِ: (لا فرقَ بَينَ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ، وبَينَ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ)
.
وقال الشِّنقيطيُّ: (وخِلافُ أهلِ الأُصولِ في مَسألةِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ أوِ الاستِئذانِ مَعروفٌ)
.
والرَّاجِحُ أنَّ الأمرَ بَعدَ الاستِئذانِ يَعودُ إلى ما كان عليه قَبلَ الاستِئذانِ، فإن كان للوُجوبِ فهو للوُجوبِ، وإن كان للنَّدبِ فهو للنَّدبِ، وإن كان للإباحةِ فهو للإباحةِ. وهو ما سَبَقَ تَرجيحُه في مَسألةِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ.
الأدِلَّةُ:1- عن عَطاءٍ، قال: سَألتُ ابنَ عَبَّاسٍ: أستَأذِنُ على أُختي؟ قال: نَعَم. قُلتُ: إنَّها في حَجري. قال: أتُحِبُّ أن تَراها عُريانةً؟!
.
فقَولُ ابنِ عَبَّاسٍ: نَعَم، يَدُلُّ على وُجوبِ الاستِئذانِ قَبلَ الدُّخولِ على الأُختِ وكُلِّ مَن في مَعناها مِمَّن يَحرُمُ عليه النَّظَرُ إلى عَورَتِه مِنَ المَحارِمِ، وهذا هو الحُكمُ الثَّابِتُ قَبلَ الاستِئذانِ
.
قال مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ: (يَنبَغي أن يَستَأذِنَ الرَّجُلُ على كُلِّ مَن يَحرُمُ عليه النَّظَرُ إلى عَورَتِه ونَحوِها)
.
2- أنَّ الاستِئذانَ لا يَصلُحُ قَرينةً تُخرِجُ الأمرَ عن مُسَمَّاه، فدَلَّ على أنَّه يَعودُ إلى ما كان عليه قَبلَ الاستِئذانِ
.
وقيلَ: الأمرُ بَعدَ الاستِئذانِ يُفيدُ الوُجوبَ. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كأبي الطَّيِّبِ الطَّبَريِّ
، والرَّازيِّ
.
وقيلَ: الأمرُ بَعدَ الاستِئذانِ يُفيدُ الإباحةَ. وهو قَولُ بَعضِ الحَنابِلةِ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- جَوازُ النَّومِ للجُنُبِ قَبلَ أن يَغتَسِلَ:فعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه سَألَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أيَرقُدُ أحَدُنا وهو جُنُبٌ؟ قال:
((نَعَم، إذا تَوضَّأ أحَدُكُم فليَرقُدْ وهو جُنُبٌ))
.
فقَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((نَعَم، إذا تَوضَّأ)) مِن بابِ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ، ومَعناه: نَعَم، ليَرقُدْ، وهو يَدُلُّ على جَوازِ النَّومِ للجُنُبِ قَبلَ الاغتِسالِ، واستِحبابِ النَّومِ على وُضوءٍ كما كان قَبلَ الاستِئذانِ.
وقد نَقَلَ النَّوَويُّ الإجماعَ على جَوازِ النَّومِ للجُنُبِ قَبلَ الاغتِسالِ، فقال: (يَجوزُ للجُنُبِ أن يَنامَ ويَأكُلَ ويَشرَبَ ويُجامِعَ قَبلَ الاغتِسالِ، وهذا مُجمَعٌ عليهـ)
.
لَكِن يُستَحَبُّ للجُنُبِ الوُضوءُ إذا أرادَ النَّومَ، وهذا مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ
، والحَنابِلةِ
، واختارَه ابنُ حَزمٍ
.
2- استِحبابُ أداءِ الحَجِّ عنِ العاجِزِ:فعن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في حَديثِ المَرأةِ الخَثعَميَّةِ التي جاءَت تَستَفتي النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه أنَّها قالت:
((يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فريضةَ اللهِ على عِبادِه في الحَجِّ أدرَكَت أبي شَيخًا كَبيرًا لا يَستَطيعُ أن يَثبُتَ على الرَّاحِلةِ، أفأحُجُّ عنه؟ قال: نَعَم، وذلك في حَجَّةِ الوداعِ))
.
وفي رِوايةٍ: عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عنِ الفَضلِ: أنَّ امرَأةً مَن خَثعَمٍ قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبي شَيخٌ كَبيرٌ عليه فريضةُ اللهِ في الحَجِّ، وهو لا يَستَطيعُ أن يَستَويَ على ظَهرِ بَعيرِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فحُجِّي عنهـ))
.
فالِاستِئذانُ: قَولُها: أفأحُجُّ عنه؟ والأمرُ الوارِدُ بَعدَه: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((نَعَم))، وقَولُه:
((فحُجِّي عنهـ)). وهو يَدُلُّ على استِحبابِ الحَجِّ عنِ الأبِ إذا كان لا يَستَطيعُ الحَجَّ عن نَفسِه لعَجزِه أو مَرَضِه
.
قال القاضي عِياضٌ: (في قَولِه عليه السَّلامُ لها:
((نَعَم)) دَليلٌ على صِحَّةِ الرُّخصةِ في ذلك، وجَوازِ النِّيابةِ فيه على سَبيلِ التَّطَوُّعِ)
.
وقال الزُّرقانيُّ: (قَولُه في رِوايةٍ:
((فحُجِّي عنهـ))... أمرُ نَدبٍ وإرشادٍ، ورُخصةٌ لها أن تَفعَلَ؛ لِما رَأى مِن حِرصِها على تَحصيلِ الخَيرِ لأبيها)
.
3- جَوازُ الرُّقيةِ ما لَم يَكُن فيها شِركٌ:عن كُرَيبٍ الكِنديِّ، قال: أخَذَ بيَدي عَليُّ بنُ الحُسَينِ، فانطَلَقنا إلى شَيخٍ مِن قُرَيشٍ يُقالُ له ابنُ أبي حَثمةَ، يُصَلِّي إلى أُسطوانةٍ، فجَلَسنا إليه، فلَمَّا رَأى عَليًّا انصَرَف إليه، فقال له عليٌّ: حَدِّثْنا حَديثَ أُمِّك في الرُّقيةِ، فقال: حَدَّثَتني أُمِّي أنَّها كانت تَرقَي في الجاهليَّةِ، فلَمَّا جاءَ الإسلامُ قالت: لا أرَقي حتَّى أستَأذِنَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتَته فاستَأذَنَته، فقال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ارقِي ما لَم يَكُنْ فيها شِركٌ"
.
فالأمرُ الوارِدُ بَعدَ الاستِئذانِ: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ارقِي ما لَم يَكُنْ فيها شِركٌ))، وهو يَدُلُّ على الإباحةِ، وهو مِن بابِ التَّداوي المَأذونِ فيه شَرعًا.
والقَولُ بحَملِ الأمرِ في الحَديثِ على الإباحةِ هو رُجوعٌ بحُكمِ الرُّقيةِ إلى أصلِها، وهو الإباحةُ؛ لأنَّ الرُّقيةَ مِن بابِ التَّداوي
.