هذا الحَديثُ فيه بَيانٌ لِفضْلِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما وصَلَ إليه مِن مَنْزِلةٍ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وبَيانُ مَزِيَّتِه وعُلوِّ مَكانتِه عِندَ اللهِ سُبحانه، وفيه كذلك بَيانُ فَضْلِ الصَّلواتِ الخمْسِ وأهمِّيَّتِها، حيث فُرِضَتْ في السَّمواتِ العُلا. وفيه يَقولُ عبدُ الله بنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: "لَمَّا بلَغَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سِدرةَ المُنْتهى"، أي: لَمَّا كان في لَيلةِ الإسراءِ والمِعراجِ مع جِبريلَ عليه السَّلامُ، ومرَّ بالسَّمواتِ السَّبعِ، ثم كانتْ نِهايةُ ما وصَلَ إليه النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ سِدْرةِ المُنْتَهى، وهي شَجرَةٌ عَظيمةٌ، "قال: انْتَهى إليها ما يَعرُجُ مِن الأرضِ وما يَنْزِلُ مِن فوقَ"، أي: عندَها يَنْتهي عِلمُ الخلائِق، وما بَعدَها لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ سُبحانَه، "فأعطاهُ اللهُ عِندَها ثلاثًا لم يُعطِهنَّ نَبِيًّا كان قبْلَه"، أي: خصَّه اللهُ عزَّ وجلَّ بثَلاثِ خِصالٍ وأعْطاها له في هذا الموقفِ؛ "فرُضِتَ عليه الصلاةُ خمْسًا"، أي: عندَ بُلوغِه سِدْرةَ المُنْتَهى، فُرِضَتْ عليه الصَّلواتُ الخمسُ، وكانت خَمسينَ، وخفَّفَها اللهُ تعالى إلى خَمسٍ في العَمَلِ، وجعَلَها خمْسينَ في الأجْرِ، "وأُعطِيَ خواتيمَ سُورةِ البقَرةِ"، أي: أواخِرَ آياتِها، وهذا بَيانٌ لِفضْلِها، "وغفَرَ لِأُمَّتِه المُقحِماتِ ما لم يُشرِكوا باللهِ شيئًا"، أي: إنَّ الذي يَموتُ مُوحِّدًا للهِ عزَّ وجلَّ، وعليه مِن كَبائرِ الذُّنوبِ؛ فإنَّه يُحاسَبُ عليها، ولكنَّه لا يُخَلَّدُ بها في النارِ، وسُمِّيَتِ المُقْحِماتِ؛ لأنَّها تُقْحِمُ صاحِبَها في النَّارِ.
قال ابنُ مَسعودٍ في قولِه تعالى: "{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}
[النجم: 16] ، قال: السِّدرةُ في السَّماءِ السادسةِ"، أي: إنَّ مَوضعَ ومكانَ سِدرةِ المُنْتهى في السماءِ السادسةِ، "قال سُفيانُ"، أي: في بَيانِ {مَا يَغْشَى} -وهو مِن رُواةِ الحديثِ-: "فَراشٌ مِن ذَهَبٍ"، أي: أحاط بالسِّدْرَةِ وغطَّاها فَراشاتٌ مِن الذَّهَب، أو أنَّ الفَراشَ مِن كَثْرتِه قد حالَ بيْنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبيْن الشَّجرَةِ "-وأشار سُفيانُ: بيَدِه فأرْعَدَها-"، أي: حرَّكَها، ولعلَّه حَكى تحرُّكَ الفَراشِ واضْطرابَها.
"وقال غيرُ مالكِ بنِ مِغْوَلٍ"، وهو مِن رُواةِ هذا الحَديثِ، والمرادُ أنَّ بعضَ الرُّواةِ قالوا في رِوايتِهم مُخبِرينَ عن سِدرةِ المُنْتهى: "إليها يَنْتَهي عِلْمُ الخلْقِ، لا عِلْمَ لهم بما فوقَ ذلك".
وقدْ ثبَتَ عنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنَّه لَمَّا انتَهى إلى سِدْرَة المنتَهَى كانتْ بَعدَ السَّماءِ السَّابِعَة، التي فيها إبراهيمُ عليه السَّلامُ، وليستِ السَّادسةَ كما ذُكِرَ في هذا الحَديثِ. وثبَتَ عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا: أنَّ خَواتيمَ البقرَةِ قد نَزَلتْ والنَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الأرضِ؛ ففي صَحيح مسلمٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: "بينَما جبريلُ قاعِدٌ عندَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، سمِعَ نَقيضًا مِن فوقِه، فرفَعَ رأْسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السَّماءِ فُتِحَ اليومَ لم يُفْتَحْ قطُّ إلَّا اليومَ، فنَزَلَ منه مَلَكٌ، فقال: هذا مَلَكٌ نزَلَ إلى الأرْضِ لم يَنزِلْ قطُّ إلَّا اليومَ، فسَلَّمَ، وقال: يا مُحَمَّدُ، أَبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما لم يُؤْتَهما نَبِيٌّ؛ فاتحةِ الكِتابِ، وخَواتيمِ سُورةِ البَقرةِ، لنْ تَقرَأَ حرْفًا مِنها إلَّا أُوتِيتَه"؛ فيكونُ الأصلُ في ذلك: أنَّ اللهَ أوْحى بخَواتيمِ سُورةِ البَقرةِ إليه في لَيلةِ الإسراءِ أصْلًا، ثمَّ نزَلَ إليه الملَكُ بها في مرَّةً أُخرى( ).